الاستِغْنَاء التَّدَرُّجِيّ (Progressive Dispensationalism)

نشأة وتطور الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

يمكن تتبع جذور الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة إلى الاستغنائية التقليدية، والتي تطورت في القرن التاسع عشر. كانت الاستغنائية التقليدية تتميز بفهم حرفي للكتاب المقدس، وتقسيم التاريخ الإنساني إلى “استغناءات” أو عصور متميزة، ولكل منها خطة الله الخاصة. مع مرور الوقت، واجهت هذه المدرسة العديد من التحديات والانتقادات، خاصة فيما يتعلق ببعض جوانبها اللاهوتية، مثل فصلها الحاد بين إسرائيل والكنيسة، وتفسيرها الدقيق للنبوءات.

ظهرت الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة كاستجابة لهذه الانتقادات. سعى المنظرون لهذه المدرسة إلى الحفاظ على بعض المبادئ الأساسية للاستغنائية، مثل التمييز بين إسرائيل والكنيسة، ولكنهم في الوقت نفسه سعوا إلى تبني نهج أكثر مرونة وتكاملاً. تأثر هذا التطور بظهور بعض المفاهيم الجديدة في علم اللاهوت، مثل “عهد الملكوت” و”الاستمرارية في العهد”.

المبادئ الأساسية للاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

تتميز الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة بعدد من المبادئ الأساسية التي تميزها عن الاستغنائية التقليدية. من بين هذه المبادئ:

التركيز على الملكوت: يعطي الاستغنائيون التَّدَرُّجِيّون أهمية خاصة لمفهوم “ملكوت الله”. يرون أن ملكوت الله حاضر بالفعل في حياة المؤمنين، ولكنه في الوقت نفسه سيتحقق بشكل كامل في المستقبل. هذا المفهوم يربط بين الحاضر والمستقبل، وبين الحياة الروحية والواقع الملموس.
الاستمرارية في العهد: على عكس الاستغنائية التقليدية التي تفصل بشكل قاطع بين العهد القديم والعهد الجديد، يرى الاستغنائيون التَّدَرُّجِيّون أن هناك استمرارية بين العهدين. يرون أن الله يعمل وفقًا لخططه في العهد القديم، والتي تتجسد في العهد الجديد، مع التركيز على تحقيق الوعود الإلهية.
التداخل بين إسرائيل والكنيسة: على الرغم من أن الاستغنائيين التَّدَرُّجِيّين يستمرون في التمييز بين إسرائيل والكنيسة، إلا أنهم يرون أن هناك نوعًا من التداخل بينهما. يرون أن الله لا يزال لديه خطة لإسرائيل، ولكن الكنيسة تلعب دورًا مهمًا في تحقيق هذه الخطة.
تفسير النبوءات: يتبنى الاستغنائيون التَّدَرُّجِيّون نهجًا أكثر مرونة في تفسير النبوءات. يركزون على المعنى الروحي والأخلاقي للنبوءات، بالإضافة إلى المعنى الحرفي. هذا النهج يساعد على تجنب بعض المشكلات التي تواجهها الاستغنائية التقليدية في تفسير النبوءات المستقبلية.

الاختلافات بين الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة والاستغنائية التقليدية

هناك عدة اختلافات رئيسية بين الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة والاستغنائية التقليدية. هذه الاختلافات تشمل:

الملكوت: في حين أن الاستغنائية التقليدية غالبًا ما تركز على ملكوت المستقبل، فإن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تؤكد على جوانب ملكوت الله الحاضرة والمستقبلية.
العهد: ترى الاستغنائية التقليدية أن العهد الجديد يمثل بداية عهد جديد مختلف تمامًا عن العهد القديم. في المقابل، تؤكد الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة على الاستمرارية بين العهدين.
إسرائيل والكنيسة: على الرغم من أن كلاهما يميز بين إسرائيل والكنيسة، فإن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تميل إلى رؤية المزيد من التداخل بينهما.
تفسير النبوءات: تميل الاستغنائية التقليدية إلى تفسير النبوءات بشكل حرفي، بينما تتبنى الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة نهجًا أكثر مرونة.

نقد الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

على الرغم من أن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة قد اكتسبت شعبية في بعض الدوائر الإنجيلية، إلا أنها تواجه أيضًا بعض الانتقادات. تتضمن هذه الانتقادات:

التسوية مع الليبرالية اللاهوتية: يرى بعض النقاد أن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة قد قدمت تنازلات كبيرة جدًا للتيارات اللاهوتية الليبرالية.
غموض بعض المفاهيم: يرى بعض النقاد أن بعض المفاهيم التي تتبناها الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة، مثل “عهد الملكوت”، غير واضحة وغير دقيقة.
عدم القدرة على تقديم بديل مقنع: يرى بعض النقاد أن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة لم تقدم بديلًا مقنعًا للاستغنائية التقليدية، وأنها لا تزال تعاني من بعض المشكلات اللاهوتية.

أهمية الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها، فإن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تظل ذات أهمية كبيرة في عالم اللاهوت المسيحي. تقدم هذه المدرسة تفسيرًا مختلفًا للكتاب المقدس، وتساعد على فهم بعض القضايا اللاهوتية المعقدة. كما أنها تساهم في تطوير الحوار اللاهوتي بين مختلف التيارات المسيحية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تساعد على فهم بعض القضايا الاجتماعية والثقافية التي تواجه المجتمعات المسيحية. على سبيل المثال، تساعد هذه المدرسة على فهم العلاقة بين المسيحية والسياسة، وبين الكنيسة والمجتمع. كما أنها تساعد على فهم دور المسيحيين في العالم.

أبرز منظري الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

من بين أبرز منظري الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة:

داريل باخ: باحث ولاهوتي معروف بأعماله في مجال اللاهوت النظامي وتفسير الكتاب المقدس.
كريج بلومبرج: عالم لاهوت بارز يركز على العهد الجديد.
جيمس سكوت: له مساهمات كبيرة في دراسات العهد القديم واللاهوت المقارن.

ساهم هؤلاء المفكرون وغيرهم في تطوير وتوسيع نطاق الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة، وساعدوا في نشر أفكارها في جميع أنحاء العالم.

تأثير الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة على المسيحية

للاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تأثير كبير على المسيحية المعاصرة، خاصةً في الدوائر الإنجيلية. فقد ساهمت في:

تغيير وجهات النظر حول تفسير الكتاب المقدس: من خلال تقديم نهج أكثر مرونة في تفسير النبوءات وتأكيد الاستمرارية في العهد، ساهمت في تغيير الطريقة التي يرى بها المسيحيون الكتاب المقدس.
تعزيز الحوار اللاهوتي: شجعت على حوار أعمق بين مختلف التيارات المسيحية، مما ساعد على بناء جسور من التفاهم.
تأثير على الحياة الكنسية: أثرت في الطريقة التي تفكر بها الكنائس حول رسالتها ودورها في العالم، مما أدى إلى زيادة التركيز على ملكوت الله والعمل الاجتماعي.

الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة في مقابل الاستغنائية التقليدية

لتوضيح الاختلافات، يمكننا أن نقارن بين الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة والاستغنائية التقليدية في عدة جوانب:

التركيز على الملكوت: بينما تركز الاستغنائية التقليدية على المستقبل، تركز الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة على الحاضر والمستقبل.
العهد: ترى الاستغنائية التقليدية انقطاعًا، بينما ترى الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة استمرارية.
إسرائيل والكنيسة: تفصل الاستغنائية التقليدية بينهما بشكل صارم، بينما ترى الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تداخلاً.
تفسير النبوءات: حرفي في التقليدية، وأكثر مرونة في التَّدَرُّجِيّة.

هذه المقارنة تساعد على فهم أعمق للفروقات بين المدرستين، وتوضح كيف تطورت الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة لتلبية بعض التحديات التي واجهتها الاستغنائية التقليدية.

تحديات مستقبلية للاستغنائية التَّدَرُّجِيّة

تواجه الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة العديد من التحديات في المستقبل، من بينها:

الحفاظ على التوازن: يجب أن تحافظ على التوازن بين المرونة في التفسير والتمسك بالمبادئ الأساسية للاستغنائية.
التعامل مع الانتقادات: يجب أن تتعامل مع الانتقادات الموجهة إليها بطريقة بناءة.
التكيف مع التغيرات الثقافية: يجب أن تتكيف مع التغيرات الثقافية المتسارعة، مع الحفاظ على قيمها الروحية.

من خلال مواجهة هذه التحديات، يمكن للاستغنائية التَّدَرُّجِيّة أن تواصل النمو والتطور، وأن تقدم مساهمات قيمة في اللاهوت المسيحي.

خاتمة

الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة تمثل تطورًا هامًا في الفكر المسيحي الإنجيلي، محاولةً تجاوز بعض القيود التي واجهتها الاستغنائية التقليدية. من خلال التركيز على ملكوت الله، والاستمرارية في العهد، والتداخل بين إسرائيل والكنيسة، ونهج مرن في تفسير النبوءات، تقدم هذه المدرسة رؤية متوازنة للعلاقة بين الحاضر والمستقبل، وبين الإيمان والعمل. ومع ذلك، فإنها تواجه تحديات في الحفاظ على توازنها وتجاوز الانتقادات الموجهة إليها. على الرغم من ذلك، تظل الاستغنائية التَّدَرُّجِيّة مساهمة قيمة في الحوار اللاهوتي المسيحي، وتساعد على فهم أعمق للكتاب المقدس والعلاقة بين الله والعالم.

المراجع

“`