خلفية تاريخية
بدأ الوجود البروتستانتي في الهند في أوائل القرن السابع عشر، مع وصول التجار البريطانيين والإنجليز إلى البلاد. ومع ذلك، لم يبدأ النشاط التبشيري المنظم حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. قبل ذلك، كان هناك عدد قليل من المرسلين، غالبًا من الدنمارك، يعملون في مناطق معينة.
كانت بريطانيا القوة الاستعمارية المهيمنة في الهند خلال هذه الفترة، مما سهل على المرسلين البروتستانت الدخول إلى البلاد والعمل فيها. أدت سياسات الشركة البريطانية للهند الشرقية، في البداية، إلى تقييد نشاط التبشير، لكن مع مرور الوقت، تغيرت هذه السياسات، وأصبح التبشير مسموحًا به بل ومشجعًا في بعض الأحيان.
الجمعيات التبشيرية الرئيسية
شهدت الهند وصول عدد كبير من الجمعيات التبشيرية البروتستانتية من دول مختلفة. من بين هذه الجمعيات:
- الجمعية التبشيرية المعمدانية (Baptist Missionary Society): تأسست في إنجلترا عام 1792، وأرسلت المرسلين إلى الهند في عام 1793. كان من أبرز روادها ويليام كاري، الذي يعتبر غالبًا “أب التبشير الحديث” في الهند. ركزت الجمعية على نشر الإنجيل، وترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الهندية، وتأسيس المدارس.
- جمعية المعرفة المسيحية (SPCK – Society for Promoting Christian Knowledge): تأسست في إنجلترا عام 1698، وهي أقدم جمعية تبشيرية في العالم. لعبت دورًا كبيرًا في نشر التعليم المسيحي والتعليم العام في الهند.
- الجمعية التبشيرية في لندن (LMS – London Missionary Society): تأسست في إنجلترا عام 1795، وركزت على العمل في جنوب الهند. قامت بتأسيس العديد من المدارس والكليات والمستشفيات، بالإضافة إلى نشر الكتب والمطبوعات المسيحية.
- بعثة بازل (Basel Mission): جمعية تبشيرية ألمانية سويسرية، عملت بشكل رئيسي في ولاية كارناتاكا وولاية كيرالا. ركزت على التعليم والتدريب المهني وإنشاء الصناعات المحلية.
- جمعية التبشير الكنسية (CMS – Church Missionary Society): جمعية أنجليكانية تأسست في إنجلترا عام 1799، وكانت نشطة في جميع أنحاء الهند. اهتمت بالتعليم والرعاية الصحية والعمل الاجتماعي.
- جمعية التبشير الدينية (SPG – Society for the Propagation of the Gospel): جمعية أنجليكانية أخرى، عملت في جميع أنحاء الهند، وخاصة في جنوب الهند وشمال شرق الهند. ركزت على التعليم والرعاية الصحية والعمل الاجتماعي.
- بعثات الزينانة (Zenana missions): ركزت على الوصول إلى النساء في الهند، اللواتي كن غالبًا منعزلات في منازلهن. قامت هذه البعثات بتوفير التعليم والرعاية الصحية والتدريب المهني للنساء.
- البعثات الطبية (Medical missions): قدمت الرعاية الصحية في جميع أنحاء الهند، وأسست المستشفيات والعيادات، وقدمت التدريب الطبي للمواطنين الهنود.
مجالات عمل المرسلين
عمل المرسلين البروتستانت في مجالات متنوعة، شملت:
- التبشير: كان هذا هو الهدف الأساسي للمرسلين، وهو نشر الإنجيل والتبشير بالمسيحية. استخدموا مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك الوعظ العام، وتوزيع الكتب والمطبوعات المسيحية، وإقامة الخدمات الدينية.
- التعليم: أسس المرسلين المدارس والكليات، بهدف توفير التعليم للمواطنين الهنود. قاموا بتدريس اللغة الإنجليزية، والعلوم، والرياضيات، والدين المسيحي. لعبت المدارس التي أسسوها دورًا هامًا في تطوير التعليم الحديث في الهند.
- الرعاية الصحية: أسس المرسلين المستشفيات والعيادات، وقدموا الرعاية الصحية للمرضى الهنود. قاموا بتدريب الممرضات والأطباء المحليين، مما ساهم في تحسين الصحة العامة في الهند.
- الخدمة الاجتماعية: شارك المرسلين في أعمال الخدمة الاجتماعية، مثل مساعدة الفقراء والمحتاجين، ومكافحة الفقر والجوع، وتوفير المأوى للمشردين.
- ترجمة الكتاب المقدس: قام المرسلين بترجمة الكتاب المقدس إلى العديد من اللغات الهندية، مما ساهم في جعل الكتاب المقدس متاحًا للقراء الهنود.
- تطوير اللغة والأدب: ساهم المرسلين في تطوير اللغات والأدب الهندي، من خلال نشر الكتب والمطبوعات، وتأسيس المطابع، وتشجيع الكتابة باللغات المحلية.
التأثير والنتائج
تركت البعثات التبشيرية البروتستانتية تأثيرًا كبيرًا على الهند، فقد:
- ساهمت في انتشار المسيحية: على الرغم من أن المسيحية لم تصبح الدين السائد في الهند، إلا أنها شهدت نموًا ملحوظًا بفضل جهود المرسلين.
- طورت التعليم: لعبت البعثات دورًا هامًا في تطوير نظام التعليم الحديث في الهند، من خلال تأسيس المدارس والكليات.
- حسنت الرعاية الصحية: ساهمت البعثات في تحسين الرعاية الصحية في الهند، من خلال تأسيس المستشفيات والعيادات وتدريب العاملين في المجال الصحي.
- عززت الخدمة الاجتماعية: قدمت البعثات الدعم للفقراء والمحتاجين، وشاركت في جهود الإغاثة في حالات الكوارث.
- أثرت في الثقافة الهندية: ساهمت البعثات في تطوير الأدب والفنون الهندية، ونشر الأفكار الغربية.
التحديات والانتقادات
واجهت البعثات التبشيرية البروتستانتية العديد من التحديات والانتقادات، منها:
- المقاومة المحلية: واجه المرسلين مقاومة من بعض الهنود الذين اعتبروا التبشير تدخلًا في شؤونهم الدينية والثقافية.
- التمييز العنصري: اتُهم بعض المرسلين بالتمييز العنصري، والتعامل مع الهنود على أنهم أدنى شأنًا.
- التسييس: اتهمت بعض البعثات بالارتباط بالمصالح السياسية البريطانية، واستغلال التبشير لخدمة الأهداف الاستعمارية.
- التأثير على الثقافة الهندية: اتهمت بعض البعثات بمحاولة القضاء على الثقافة والتقاليد الهندية.
على الرغم من هذه التحديات والانتقادات، لا يمكن إنكار التأثير الكبير للبعثات التبشيرية البروتستانتية على الهند. فقد ساهمت في تغيير المشهد الديني والاجتماعي والثقافي في البلاد، وتركت بصماتها في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمة الاجتماعية.
المرسلون البارزون
كان هناك العديد من المرسلين البارزين الذين تركوا بصمة في الهند، ومنهم:
- ويليام كاري: يعتبر “أب التبشير الحديث” في الهند، وقام بترجمة الكتاب المقدس إلى العديد من اللغات الهندية، وأسس الكلية المعمدانية في سيرامبور.
- هنري مارتن: مبشر إنجليزي، قام بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الفارسية والأردية.
- ألكسندر داف: مبشر اسكتلندي، أسس الكلية الحرة في كلكتا، التي لعبت دورًا هامًا في تطوير التعليم الحديث في الهند.
- جون ويلسون: مبشر اسكتلندي، أسس الكلية المسيحية في مومباي، وكان رائدًا في مجال التعليم في غرب الهند.
البعثات التبشيرية اليوم
لا تزال البعثات التبشيرية البروتستانتية تعمل في الهند حتى اليوم، على الرغم من تغير الظروف السياسية والاجتماعية. تركز هذه البعثات على التعليم والرعاية الصحية والخدمة الاجتماعية، بالإضافة إلى التبشير. ومع ذلك، فإن تأثيرها أصبح أقل وضوحًا مما كان عليه في الماضي، بسبب صعود القومية الهندوسية وتزايد التعقيد في المشهد الديني الهندي.
خاتمة
لعب المرسلون البروتستانت دورًا حاسمًا في تاريخ الهند، حيث ساهموا في تشكيل المشهد الديني والاجتماعي والثقافي في البلاد. على الرغم من التحديات والانتقادات التي واجهتهم، إلا أنهم تركوا بصماتهم في مجالات التعليم والرعاية الصحية والخدمة الاجتماعية، وأثروا في تطور اللغة والأدب الهندي. لا تزال البعثات التبشيرية تعمل في الهند حتى اليوم، وإن كان تأثيرها قد تغير مع مرور الوقت.