نشأته وحياته المبكرة
ولد ماري-تيودور راتيسبون في ستراسبورغ بفرنسا عام 1802 لعائلة يهودية ثرية. كان والده، أوغست راتيسبون، مصرفيًا بارزًا، وكانت والدته، أديليد سيرف بير، من عائلة ذات مكانة اجتماعية مرموقة. كان للعائلة جذور عميقة في الثقافة اليهودية الألزاسية، ولكنها كانت أيضًا منفتحة على الأفكار العلمانية والاتجاهات الثقافية السائدة في فرنسا في ذلك الوقت.
على الرغم من نشأته في بيئة يهودية، لم يكن راتيسبون متدينًا بشكل خاص في شبابه. ركز على دراسته وعلاقاته الاجتماعية، وكان يتمتع بحياة مريحة ومرفهة. درس القانون وحصل على شهادته، وبدأ مسيرته المهنية في مجال المحاماة. ومع ذلك، كان يحمل في داخله فراغًا روحيًا وشوقًا لمعنى أعمق في الحياة.
التحول الديني
حدث التحول الديني الجذري لراتيسبون في عام 1842 أثناء رحلة إلى روما. قبل وقت قصير من الرحلة، طلب منه صديقه المقرب، البارون دي بوسيير، أن يحمل ميدالية القديسة مريم العذراء وأن يصلي مسبحة “تذكّري” (Memorare) يوميًا. على الرغم من تردده في البداية، وافق راتيسبون على مضض على طلب صديقه.
أثناء وجوده في روما، زار راتيسبون كنيسة سانت أندريا ديلي فرات. وبينما كان ينتظر في الكنيسة، ظهرت له السيدة العذراء مريم في رؤية. وصف راتيسبون التجربة بأنها لحظة نور إلهي عميق غمرته بشعور لا يوصف بالسلام والفرح. شعر بإحساس عميق بحضور الله وبحب مريم العذراء.
أدى هذا الظهور إلى تحول جذري في حياة راتيسبون. قرر اعتناق الكاثوليكية وتلقى سر العماد في 31 يناير 1842. أثار اعتناقه ضجة كبيرة في المجتمع اليهودي الفرنسي، وأدى إلى نقاشات حادة حول الدين والهوية والانتماء.
تأسيس جمعية راهبات صهيون نوتردام
بعد اعتناقه الكاثوليكية، شعر راتيسبون بدعوة خاصة لخدمة الشعب اليهودي وتعزيز الوحدة بين المسيحيين واليهود. اقتناعًا منه بأن التعليم والعمل الخيري هما مفتاح تحقيق هذا الهدف، قرر تأسيس جمعية دينية جديدة مكرسة لمريم العذراء.
في عام 1843، أسس راتيسبون جمعية راهبات صهيون نوتردام. كانت مهمة الراهبات هي توفير التعليم والخدمات الاجتماعية للفتيات اليهوديات والمسلمات والمسيحيات. كما سعين إلى تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين أتباع الديانات المختلفة. انتشرت جمعية راهبات صهيون نوتردام بسرعة في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، وأسست مدارس وملاجئ ومستشفيات في العديد من البلدان.
ركزت الراهبات على توفير تعليم شامل للفتيات، مع التركيز على المواد الأكاديمية والمهارات العملية والقيم الأخلاقية. كما شاركن في العمل الخيري، وقمن بزيارة المرضى والفقراء وتقديم المساعدة للمحتاجين.
تأسيس جمعية آباء صهيون نوتردام
إدراكًا منه لأهمية دور الرجال في تحقيق أهداف جمعية راهبات صهيون نوتردام، أسس راتيسبون في عام 1852 جمعية آباء صهيون نوتردام. كان الآباء كهنة وعلماء ومثقفين كاثوليكيين مكرسين لتعزيز الحوار بين المسيحيين واليهود، والدفاع عن حقوق الشعب اليهودي، وتوفير الدعم الروحي والمادي لجمعية راهبات صهيون نوتردام.
عمل الآباء عن كثب مع الراهبات في مشاريع التعليم والعمل الخيري. كما نشروا الكتب والمقالات التي تهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين المسيحيين واليهود. لعب الآباء دورًا مهمًا في مساعدة الجمعية على التوسع والوصول إلى جمهور أوسع.
رسالة راتيسبون
كانت رسالة راتيسبون الأساسية هي أن الوحدة والمحبة بين المسيحيين واليهود ممكنة. كان يعتقد أن المسيحيين واليهود يمكن أن يتعلموا من بعضهم البعض وأن يعملوا معًا لبناء عالم أفضل. كان يرى أن مريم العذراء هي رمز الوحدة والأمل، وأنها يمكن أن تساعد في شفاء الانقسامات بين الديانات المختلفة.
شدد راتيسبون على أهمية الحوار والاحترام المتبادل والتسامح. كان يعتقد أن التعصب والتمييز يؤديان إلى العنف والكراهية، وأن التعليم والعمل الخيري هما أفضل طريقة لمكافحة هذه الشرور.
تأثيره وإرثه
كان لماري-تيودور راتيسبون تأثير عميق على الكنيسة الكاثوليكية والعلاقات بين المسيحيين واليهود. ساهمت جمعيتي راهبات وآباء صهيون نوتردام في تعزيز التعليم والعمل الخيري والحوار بين الأديان في جميع أنحاء العالم. ألهمت قصة تحوله الديني عددًا لا يحصى من الناس، وما زالت كلماته وأعماله تلهمنا حتى اليوم.
تستمر جمعية راهبات صهيون نوتردام في العمل في العديد من البلدان، وتقدم التعليم والخدمات الاجتماعية للمحتاجين. تظل الجمعية ملتزمة بتعزيز الحوار بين الأديان والعمل من أجل عالم أكثر عدلاً وسلامًا.
تكريمه
تم تكريم ماري-تيودور راتيسبون في الكنيسة الكاثوليكية. أعلنه البابا بيوس الحادي عشر مُكرَّمًا في عام 1942، وأعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباويًا في عام 1985. يعتبر راتيسبون مثالًا للمؤمن الذي سعى إلى الوحدة والمحبة بين الناس من خلال التعليم والعمل الخيري.
يُحتفل بعيده في 14 يناير.
مؤلفاته
- Essai sur la question d’Orient (1838)
- Lettre de M. Ratisbonne aux Israelites ses frères (1842)
- Histoire de saint Bernard (1843)
خاتمة
كان ماري-تيودور راتيسبون شخصية بارزة في القرن التاسع عشر، اشتهر بتحوله الديني المذهل من اليهودية إلى الكاثوليكية وتأسيسه لجمعيتي راهبات وآباء صهيون نوتردام. كرس حياته لخدمة المحتاجين وتعزيز الحوار بين الأديان، تاركًا إرثًا دائمًا من التعليم والعمل الخيري والتفاهم المتبادل. تُظهر حياته قوة الإيمان والتحول وأهمية العمل من أجل الوحدة والسلام في عالم منقسم.