مقدمة
الأبولينارية، أو الأبوليناريوسية، هي بدعة مسيحية ظهرت في القرن الرابع الميلادي، ونُسبت إلى أبوليناريوس اللاذقي (توفي عام 390 م). تتمحور هذه البدعة حول طبيعة المسيح، وتحديداً العلاقة بين اللاهوت والناسوت فيه. يرى أتباع هذه العقيدة أن يسوع المسيح لم يمتلك روحًا بشرية كاملة، بل كان له جسد بشري وروح إلهية، مما يعني أن اللاهوت حل محل الروح العقلانية البشرية.
أبوليناريوس اللاذقي
كان أبوليناريوس أسقفًا على اللاذقية في سوريا، ويُعتبر من أبرز اللاهوتيين في عصره. كان صديقًا مقربًا للقديس أثناسيوس، ودافع بشدة عن عقيدة نيقية التي تؤكد على ألوهية المسيح. ومع ذلك، سعى أبوليناريوس إلى فهم طبيعة المسيح بطريقة اعتبرها البعض مخالفة للعقيدة القويمة، مما أدى إلى ظهور الأبولينارية.
جوهر الأبولينارية
تتلخص فكرة أبوليناريوس في أن طبيعة المسيح هي اتحاد غير كامل بين اللاهوت والناسوت. ولفهم هذا الاتحاد، قام أبوليناريوس بتقسيم الطبيعة البشرية إلى ثلاثة أجزاء: الجسد، والنفس (التي تشمل العواطف والرغبات)، والعقل (أو الروح العقلانية). وفقًا لأبوليناريوس، فإن المسيح لم يمتلك عقلًا بشريًا، بل كان اللاهوت (الكلمة أو اللوغوس) هو الذي يحل محل العقل البشري في المسيح. وبعبارة أخرى، كان المسيح يمتلك جسدًا بشريًا ونفسًا بشرية، ولكنه كان يتحرك ويتصرف بواسطة اللاهوت الذي يسكن فيه.
النقاط الرئيسية في فكر الأبولينارية:
- إنكار الروح العقلانية البشرية للمسيح: هذا هو جوهر الأبولينارية، حيث يرى أتباعها أن المسيح لم يمتلك عقلًا بشريًا كاملًا.
- حلول اللاهوت محل العقل البشري: يعتقد الأبوليناريون أن اللاهوت (الكلمة أو اللوغوس) حل محل العقل البشري في المسيح، مما جعله يتصرف ويتكلم بأمر إلهي مباشر.
- اتحاد غير كامل بين اللاهوت والناسوت: تعتبر الأبولينارية أن الاتحاد بين اللاهوت والناسوت في المسيح ليس اتحادًا كاملاً، بل هو أقرب إلى امتزاج أو تداخل بينهما.
دوافع أبوليناريوس
كان لأبوليناريوس عدة دوافع وراء طرح هذه النظرية. أحد هذه الدوافع هو الدفاع عن ألوهية المسيح ضد الآريوسية، التي كانت تنكر ألوهية المسيح وتعتبره مخلوقًا. كان أبوليناريوس يرى أن الاعتراف بأن المسيح يمتلك طبيعة بشرية كاملة قد يؤدي إلى التقليل من شأن ألوهيته. لذلك، سعى إلى إيجاد طريقة للتأكيد على ألوهية المسيح مع الحفاظ على وحدته.
دوافع أخرى لأبوليناريوس:
- تجنب الازدواجية في شخص المسيح: كان أبوليناريوس يخشى من أن الاعتراف بأن المسيح يمتلك طبيعتين كاملتين (لاهوت وناسوت) قد يؤدي إلى تقسيم شخصيته إلى شخصيتين منفصلتين.
- التأكيد على وحدة المسيح: سعى أبوليناريوس إلى التأكيد على وحدة شخصية المسيح وتكامله، وذلك من خلال التأكيد على أن اللاهوت هو القوة المحركة والفاعلة في حياة المسيح.
- تفسير الكتاب المقدس: استند أبوليناريوس في نظريته إلى بعض النصوص الكتابية التي فسرها بطريقة تدعم فكرته عن عدم وجود عقل بشري للمسيح.
ردود الفعل على الأبولينارية
أثارت الأبولينارية جدلاً واسعًا في الكنيسة، وواجهت معارضة شديدة من العديد من اللاهوتيين والقادة الكنسيين. رأى المعارضون أن الأبولينارية تشكل خطرًا على العقيدة المسيحية القويمة، لأنها تنكر كمال طبيعة المسيح البشرية. وجادلوا بأن المسيح يجب أن يكون قد أخذ الطبيعة البشرية كاملة، بما في ذلك العقل البشري، حتى يتمكن من أن يكون وسيطًا كاملاً بين الله والإنسان.
من أبرز الردود على الأبولينارية:
- ردود الآباء الكبادوكيين: قام كل من باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصي بالرد على الأبولينارية بشكل مفصل، وبينوا خطرها على العقيدة المسيحية.
- إدانة المجامع الكنسية: أدانت العديد من المجامع الكنسية الأبولينارية، بما في ذلك مجمع القسطنطينية الأول عام 381 م، الذي أعلن الأبولينارية بدعة وحرم أتباعها.
- كتابات اللاهوتيين: قام العديد من اللاهوتيين بكتابة مقالات وكتب للرد على الأبولينارية وتفنيد حججها، من بينهم القديس أمبروسيوس والقديس جيروم.
أهمية الرد على الأبولينارية
تكمن أهمية الرد على الأبولينارية في الحفاظ على العقيدة المسيحية القويمة بشأن طبيعة المسيح. كان الدفاع عن كمال طبيعة المسيح البشرية ضروريًا للتأكيد على قدرة المسيح على فهم ومعاناة الإنسان، وعلى تقديم الفداء الكامل للبشرية. فإذا كان المسيح لم يأخذ الطبيعة البشرية كاملة، فإنه لا يستطيع أن يكون ممثلاً كاملاً للإنسان أمام الله.
تأثير الأبولينارية
على الرغم من إدانة الأبولينارية من قبل الكنيسة، إلا أنها تركت أثرًا في الفكر اللاهوتي المسيحي. فقد أدت المناقشات حول الأبولينارية إلى توضيح وتعميق الفهم لطبيعة المسيح، وإلى تطوير المصطلحات والمفاهيم اللاهوتية المستخدمة لوصف العلاقة بين اللاهوت والناسوت في المسيح. كما ساهمت في تحفيز اللاهوتيين على دراسة الكتاب المقدس بعناية أكبر، وعلى البحث عن تفسيرات متوازنة للنصوص التي تتحدث عن طبيعة المسيح.
انحسار الأبولينارية
بحلول القرن الخامس الميلادي، بدأت الأبولينارية في الانحسار والاختفاء تدريجيًا. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها:
- المعارضة الشديدة من الكنيسة: أدت إدانة المجامع الكنسية وكتابات اللاهوتيين إلى تقويض مصداقية الأبولينارية وتقليل عدد أتباعها.
- ظهور بدع أخرى: ظهرت بدع أخرى في القرن الخامس الميلادي، مثل النسطورية والمونوفيزية، التي جذبت اهتمام اللاهوتيين والقادة الكنسيين.
- عدم قدرة الأبولينارية على تقديم تفسير مقنع لطبيعة المسيح: لم تستطع الأبولينارية تقديم تفسير مقنع لطبيعة المسيح يرضي جميع الأطراف، مما أدى إلى فقدانها للدعم والتأييد.
ميراث الأبولينارية
على الرغم من أن الأبولينارية لم تستمر كحركة دينية مستقلة، إلا أنها تركت ميراثًا في الفكر اللاهوتي المسيحي. فقد ساهمت في توضيح المفاهيم المتعلقة بطبيعة المسيح، وفي تطوير المصطلحات اللاهوتية المستخدمة لوصف العلاقة بين اللاهوت والناسوت. كما أنها دفعت اللاهوتيين إلى دراسة الكتاب المقدس بعناية أكبر، وإلى البحث عن تفسيرات متوازنة للنصوص التي تتحدث عن طبيعة المسيح.
خاتمة
الأبولينارية هي بدعة مسيحية ظهرت في القرن الرابع الميلادي، ونُسبت إلى أبوليناريوس اللاذقي. تتمحور هذه البدعة حول طبيعة المسيح، وتحديداً العلاقة بين اللاهوت والناسوت فيه. يرى أتباع هذه العقيدة أن يسوع المسيح لم يمتلك روحًا بشرية كاملة، بل كان له جسد بشري وروح إلهية. وقد أثارت هذه البدعة جدلاً واسعًا في الكنيسة، وواجهت معارضة شديدة من العديد من اللاهوتيين والقادة الكنسيين، وأُدينت في المجامع الكنسية. وعلى الرغم من انحسارها، إلا أنها تركت أثرًا في الفكر اللاهوتي المسيحي، وساهمت في توضيح المفاهيم المتعلقة بطبيعة المسيح.