<![CDATA[
مقدمة في فكر برونو لاتور
قبل الخوض في تفاصيل كتاب “العلم في الممارسة”، من الضروري فهم السياق الفكري الذي نشأ فيه. برونو لاتور، على عكس العديد من الفلاسفة والمؤرخين التقليديين للعلم، لا ينظر إلى العلم على أنه مجموعة من الحقائق الموضوعية التي يتم اكتشافها بمعزل عن السياق الاجتماعي. بدلاً من ذلك، يرى أن العلم هو عملية اجتماعية معقدة تتشكل من خلال التفاعلات بين العلماء والمختبرات والمعدات والمؤسسات والقوى الاجتماعية الأوسع.
يرفض لاتور فكرة الفصل الحاد بين “الطبيعة” و “المجتمع”، وهي فكرة أساسية في الفكر الغربي الحديث. يجادل بأن هذه الثنائية تخفي الطريقة التي تتشابك بها الطبيعة والمجتمع بشكل وثيق في الممارسة العلمية. بدلاً من ذلك، يقترح لاتور مفهومًا جديدًا، وهو “الشبكة” (Network)، لوصف العلاقات المعقدة التي تربط بين العناصر المختلفة في العملية العلمية. هذه الشبكة تتكون من البشر وغير البشر، من الحقائق والأدوات والمؤسسات، وكلها تتفاعل مع بعضها البعض لتشكيل العلم.
المنهجية: تتبع العلماء والمهندسين
يقدم كتاب “العلم في الممارسة” منهجية فريدة لفهم العلم، وهي منهجية “التتبع” (Following). يدعو لاتور القراء إلى تتبع العلماء والمهندسين في عملهم اليومي، وملاحظة كيف يقومون ببناء الحقائق العلمية، وكيف يتفاعلون مع الأدوات والمعدات، وكيف يتفاوضون مع زملائهم، وكيف يتعاملون مع العقبات والتحديات. من خلال هذا التتبع الدقيق، يمكننا أن نرى أن العلم ليس مجرد اكتشاف للحقائق، بل هو عملية بناء وتشكيل.
يركز لاتور على أهمية “التسجيلات” (Inscriptions) في العملية العلمية. التسجيلات هي أي نوع من التمثيل البصري أو النصي أو الرقمي الذي يستخدمه العلماء لتسجيل نتائج تجاربهم وتحليل بياناتهم وتوصيل أفكارهم. تشمل التسجيلات الرسوم البيانية والجداول والصور الفوتوغرافية والمعادلات والنصوص. يجادل لاتور بأن التسجيلات ليست مجرد أدوات لتسجيل الحقائق، بل هي أدوات لتشكيل الحقائق. من خلال اختيار طريقة معينة لتسجيل البيانات، يمكن للعلماء أن يؤثروا على كيفية فهم هذه البيانات.
يستخدم لاتور مفهوم “الدائرة السوداء” (Black Box) لوصف الحالات التي يتم فيها قبول حقيقة علمية معينة دون الحاجة إلى فحصها أو تبريرها. عندما يتم تداول حقيقة علمية لفترة طويلة وتصبح جزءًا من المعرفة العامة، فإنها تصبح “دائرة سوداء”. هذا يعني أن الناس لم يعودوا يسألون عن كيفية إنتاج هذه الحقيقة أو عن الأدلة التي تدعمها. بدلاً من ذلك، فإنهم ببساطة يقبلونها على أنها صحيحة. يجادل لاتور بأن فهم كيفية فتح “الدوائر السوداء” وكشف العمليات التي أدت إلى إنتاجها هو أمر ضروري لفهم طبيعة العلم.
مفاهيم أساسية في الكتاب
- الشبكة (Network): مفهوم أساسي في فكر لاتور، يصف العلاقات المعقدة التي تربط بين العناصر المختلفة في العملية العلمية. هذه الشبكة تتكون من البشر وغير البشر، من الحقائق والأدوات والمؤسسات، وكلها تتفاعل مع بعضها البعض لتشكيل العلم.
- التتبع (Following): منهجية فريدة لفهم العلم، تدعو القراء إلى تتبع العلماء والمهندسين في عملهم اليومي، وملاحظة كيف يقومون ببناء الحقائق العلمية، وكيف يتفاعلون مع الأدوات والمعدات، وكيف يتفاوضون مع زملائهم.
- التسجيلات (Inscriptions): أي نوع من التمثيل البصري أو النصي أو الرقمي الذي يستخدمه العلماء لتسجيل نتائج تجاربهم وتحليل بياناتهم وتوصيل أفكارهم.
- الدائرة السوداء (Black Box): حالة يتم فيها قبول حقيقة علمية معينة دون الحاجة إلى فحصها أو تبريرها.
- الوساطة (Translation): العملية التي يتم من خلالها تحويل الأفكار والمعلومات بين مختلف العناصر في الشبكة العلمية.
تأثير الكتاب وأهميته
أحدث كتاب “العلم في الممارسة” ثورة في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا. لقد ألهم العديد من الباحثين لدراسة العلم من منظور اجتماعي، والتركيز على العمليات التي يتم من خلالها بناء الحقائق العلمية. كما ساهم الكتاب في تطوير مفاهيم جديدة وأدوات تحليلية لفهم طبيعة العلم.
بالإضافة إلى تأثيره الأكاديمي، كان لكتاب “العلم في الممارسة” أيضًا تأثير على الممارسة العلمية نفسها. لقد ساعد الكتاب العلماء على أن يكونوا أكثر وعيًا بالافتراضات والقيم التي توجه عملهم، وعلى أن يكونوا أكثر انفتاحًا على وجهات النظر المختلفة. كما ساهم الكتاب في تحسين التواصل بين العلماء والجمهور، من خلال توضيح كيفية عمل العلم وكيف يتم إنتاج المعرفة العلمية.
يمكن اعتبار الكتاب بمثابة دعوة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين العلم والمجتمع. يدعو لاتور إلى تجاوز النظرة التقليدية للعلم على أنه مجموعة من الحقائق الموضوعية التي يتم اكتشافها بمعزل عن السياق الاجتماعي، وإلى تبني منظور جديد يرى العلم على أنه عملية اجتماعية معقدة تتشكل من خلال التفاعلات بين مختلف العناصر في الشبكة العلمية.
نقد الكتاب
على الرغم من أهميته وتأثيره، لم يسلم كتاب “العلم في الممارسة” من النقد. يرى بعض النقاد أن لاتور يبالغ في التركيز على الجوانب الاجتماعية للعلم، ويتجاهل أهمية الأدلة التجريبية والتفكير العقلاني. كما يتهمونه بالوقوع في النسبية، حيث يرى أن جميع الحقائق العلمية هي مجرد بناءات اجتماعية، ولا يوجد فرق بين الحقائق الصحيحة والحقائق الخاطئة.
يجادل آخرون بأن منهجية “التتبع” التي يقترحها لاتور هي منهجية صعبة التطبيق، وتتطلب الكثير من الوقت والجهد. كما يرون أن مفهوم “الشبكة” الذي يستخدمه لاتور هو مفهوم غامض وغير دقيق، ويصعب استخدامه في التحليل العملي.
ومع ذلك، يعترف معظم النقاد بأن كتاب “العلم في الممارسة” هو عمل فكري مهم ومثير للتفكير، وقد ساهم بشكل كبير في تطوير فهمنا للعلم.
تطبيقات الكتاب في مجالات مختلفة
يمكن تطبيق أفكار كتاب “العلم في الممارسة” في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك:
- السياسة العلمية: يمكن استخدام أفكار الكتاب لتحليل كيفية اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة العلمية، وكيف تتأثر هذه القرارات بالمصالح السياسية والاقتصادية.
- التواصل العلمي: يمكن استخدام أفكار الكتاب لتحسين التواصل بين العلماء والجمهور، من خلال توضيح كيفية عمل العلم وكيف يتم إنتاج المعرفة العلمية.
- تعليم العلوم: يمكن استخدام أفكار الكتاب لتطوير طرق جديدة لتعليم العلوم، تركز على العمليات التي يتم من خلالها بناء المعرفة العلمية، بدلاً من مجرد حفظ الحقائق.
- دراسات الابتكار: يمكن استخدام أفكار الكتاب لتحليل عمليات الابتكار التكنولوجي، وكيف تتشكل هذه العمليات من خلال التفاعلات بين مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك الشركات والجامعات والحكومات.
أمثلة عملية
لتوضيح كيفية تطبيق أفكار لاتور، يمكن النظر إلى بعض الأمثلة العملية:
مثال 1: دراسة بناء لقاح جديد. يمكن تتبع العلماء الذين يعملون على تطوير اللقاح، وملاحظة كيف يقومون بتصميم التجارب وتحليل البيانات وكتابة التقارير. يمكن أيضًا تتبع التفاعلات بين العلماء والشركات التي تمول البحث والمؤسسات الحكومية التي تنظم عملية الموافقة على اللقاح. من خلال هذا التتبع، يمكن فهم كيف يتم بناء اللقاح وكيف يتم إضفاء الشرعية عليه.
مثال 2: دراسة بناء نظرية علمية جديدة. يمكن تتبع العلماء الذين يعملون على تطوير النظرية، وملاحظة كيف يقومون بجمع الأدلة وتحليلها وكتابة المقالات العلمية. يمكن أيضًا تتبع التفاعلات بين العلماء والمجتمع العلمي الأوسع، وكيف يتم قبول النظرية أو رفضها. من خلال هذا التتبع، يمكن فهم كيف يتم بناء النظرية وكيف يتم إضفاء الشرعية عليها.
خاتمة
يظل كتاب “العلم في الممارسة” مرجعًا أساسيًا في دراسات العلوم والتكنولوجيا، حيث يقدم رؤية فريدة ومبتكرة لطبيعة العلم وكيفية إنتاجه وتداوله في المجتمع. من خلال منهجيته المتميزة ومفاهيمه الغنية، يساهم الكتاب في فهم أعمق للعلاقة المعقدة بين العلم والمجتمع، ويشجع على إعادة التفكير في الافتراضات والقيم التي توجه الممارسة العلمية.