خلفية تاريخية
نشأت المخوفشتشينا في أعقاب ثورة فبراير عام 1917 وسقوط القيصرية الروسية. شكلت أوكرانيا، التي كانت آنذاك مقسمة بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية المجرية، ساحة لصراع على السلطة بين قوى مختلفة. استغل الفلاحون الأوكرانيون حالة الفوضى هذه للمطالبة بالأراضي والاستقلال. في هذه البيئة، برز نيستور ماخنو، وهو فلاح وأب لطبقة العمال من منطقة غولياي بول في جنوب شرق أوكرانيا، كقائد للحركة اللاسلطوية. اكتسب ماخنو شعبية كبيرة بفضل خطابه المباشر والتزامه بمصالح الفلاحين.
نيستور ماخنو: القائد والمنظر
كان نيستور ماخنو (1888-1934) شخصية مركزية في المخوفشتشينا. نشأ في عائلة فلاحية فقيرة، وتعرض لظروف قاسية في شبابه. انخرط في الأنشطة الثورية في سن مبكرة، وأمضى سنوات في السجن بسبب أنشطته السياسية. أصبح ماخنو مؤمنًا راسخًا باللاسلطوية، وهي فلسفة تدعو إلى إلغاء الدولة والسلطة المركزية، وتأسيس مجتمع يقوم على التعاون الطوعي والملكية الجماعية. كان ماخنو قائدًا عسكريًا ماهرًا، وقادرًا على حشد وتوحيد الفلاحين الأوكرانيين، الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان المنطقة.
بالإضافة إلى كونه قائدًا عسكريًا، كان ماخنو أيضًا منظرًا سياسيًا مؤثرًا. صاغ مبادئ الحركة اللاسلطوية الأوكرانية، والتي تضمنت:
- إلغاء الدولة: رفض ماخنو أي شكل من أشكال السلطة المركزية، بما في ذلك الحكومة السوفيتية البلشفية.
- الحكم الذاتي: دعا ماخنو إلى مجتمع ينظم فيه الناس أنفسهم طوعًا، دون تدخل من الدولة.
- الملكية الجماعية: آمن ماخنو بضرورة ملكية العمال للأراضي ووسائل الإنتاج، مع توزيع الثروة بشكل عادل.
- المقاومة المسلحة: اعتبر ماخنو العنف ضروريًا للدفاع عن الثورة وحماية المجتمع اللاسلطوي.
تشكيل وتطور الحركة
بدأت المخوفشتشينا كتجمع عفوي للفلاحين الذين يسعون للدفاع عن أنفسهم ضد القوات المعادية. تطورت هذه المجموعات المسلحة إلى جيش ثوري منظم، عُرف باسم “جيش التمرد الثوري الأوكراني” أو “جيش ماخنو”. تميز هذا الجيش بانضباطه العالي، واستراتيجيته العسكرية المبتكرة، واستخدامه لأساليب حرب العصابات. اعتمد الجيش على دعم السكان المحليين، الذين وفروا لهم الغذاء والملابس والمعلومات. بلغت المخوفشتشينا ذروتها في عام 1919، حيث سيطرت على مساحة واسعة من أوكرانيا الجنوبية الشرقية.
اتبعت الحركة مبادئ اللاسلطوية في تنظيمها الاجتماعي والسياسي. تم تنظيم المجتمعات المحلية على أساس المجالس الحرة، حيث كان السكان يتخذون القرارات بالإجماع. تم إلغاء الملكية الخاصة للأراضي، وتم توزيعها على الفلاحين الذين عملوا عليها. تم إنشاء تعاونيات زراعية لزيادة الإنتاجية. كما تم إنشاء نظام تعليمي جديد، يركز على التعليم العملي والتفكير النقدي.
الصراع مع القوى الأخرى
واجهت المخوفشتشينا صراعًا مستمرًا مع قوى مختلفة، بما في ذلك الجيش الأحمر البلشفي، والجيش الأبيض الموالي للقيصر، والقوات الأوكرانية القومية. كانت العلاقة مع البلشفية معقدة ومتناقضة. في البداية، تعاون ماخنو مع البلاشفة ضد الجيش الأبيض، ولكن سرعان ما انهار هذا التحالف بسبب الخلافات الأيديولوجية والسياسية. اتهم البلاشفة ماخنو بالانحراف عن خط الثورة، بينما اتهمهم ماخنو بالاستبداد والمركزية.
تصاعد التوتر بين المخوفشتشينا والبلاشفة، وتحول إلى صراع مسلح دامٍ. شن البلاشفة حملات قمعية ضد حركة ماخنو، في محاولة لتدميرها. على الرغم من مقاومة المخوفشتشينا الشديدة، إلا أنها لم تتمكن من الصمود أمام التفوق العسكري والسياسي للجيش الأحمر. في عام 1921، أُجبر ماخنو على الفرار من أوكرانيا، بعد أن تم تصفية معظم مقاتليه.
إرث المخوفشتشينا
على الرغم من قصر عمرها، تركت المخوفشتشينا إرثًا دائمًا. كانت بمثابة تجربة فريدة من نوعها في الحكم الذاتي اللاسلطوي، وأثبتت أن المجتمعات يمكن أن تنظم نفسها دون الحاجة إلى الدولة والسلطة المركزية. أثرت المخوفشتشينا في الحركات اللاسلطوية في جميع أنحاء العالم، وألهمت الأجيال القادمة من الثوريين. لا تزال مبادئها المتعلقة بالحكم الذاتي، والملكية الجماعية، والمقاومة الشعبية ذات صلة في عالم اليوم.
ومع ذلك، واجهت المخوفشتشينا أيضًا انتقادات. اتهمها البعض بالعنف المفرط، وعدم القدرة على الحفاظ على نظام مستقر. كما انتقدها البعض لعدم قدرتها على بناء تحالفات واسعة، والاعتماد المفرط على القوة العسكرية. على الرغم من هذه الانتقادات، تظل المخوفشتشينا موضوعًا للدراسة والاهتمام من قبل المؤرخين والباحثين والناشطين السياسيين.
المخوفشتشينا في الثقافة الشعبية
تركت المخوفشتشينا أثرًا في الثقافة الشعبية. ظهرت في العديد من الروايات والأفلام والمسرحيات والأغاني. تُصور هذه الأعمال عادةً ماخنو كبطل شعبي يقاتل من أجل العدالة الاجتماعية والحرية. ومع ذلك، غالبًا ما يتم تبسيط أو تجميل الأحداث التاريخية في هذه الأعمال، مما يؤدي إلى صورة غير دقيقة للمخوفشتشينا.
أحد الأمثلة البارزة هو فيلم “9 أيام في عام واحد” (1962)، الذي يصور صراع ماخنو ضد القوات البلشفية. كما ظهرت المخوفشتشينا في عدد من الأعمال الأدبية، بما في ذلك رواية “أنا أخدم في الجيش الأحمر” (1924) لإسحاق بابل. تساهم هذه الأعمال في نشر الوعي بالمخوفشتشينا، ولكنها تتطلب أيضًا القراءة النقدية، مع الأخذ في الاعتبار الدوافع الأيديولوجية للكتاب وصناع الأفلام.
أهمية المخوفشتشينا اليوم
تكمن أهمية دراسة المخوفشتشينا في الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه التجربة التاريخية. تقدم المخوفشتشينا نموذجًا بديلًا للتنظيم الاجتماعي والسياسي، يعتمد على مبادئ الحكم الذاتي، والملكية الجماعية، والمساواة. في عالم اليوم، الذي يشهد صراعًا متزايدًا على السلطة، وعدم مساواة متزايدة، قد تكون مبادئ المخوفشتشينا ذات صلة بشكل خاص.
يمكن أن تساعد دراسة المخوفشتشينا في:
- فهم البدائل: يوفر دراسة المخوفشتشينا فهمًا أعمق للبدائل الممكنة للدولة والسلطة المركزية.
- إلهام الحركات الاجتماعية: يمكن أن تلهم المخوفشتشينا الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى التغيير الاجتماعي والسياسي.
- تعزيز التفكير النقدي: تشجع دراسة المخوفشتشينا على التفكير النقدي حول قضايا السلطة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.
خاتمة
المخوفشتشينا كانت حركة ثورية فريدة من نوعها في أوكرانيا، سعت إلى إقامة الشيوعية اللاسلطوية. على الرغم من قصر عمرها، تركت هذه الحركة إرثًا دائمًا، وأثبتت أن المجتمعات يمكن أن تنظم نفسها على أساس مبادئ الحكم الذاتي والملكية الجماعية. شكلت المخوفشتشينا تجربة مهمة في التاريخ، ولا تزال مبادئها ذات صلة في عالم اليوم.
المراجع
- Makhnovshchina – Encyclopedia Britannica
- Makhnovshchina – Wikipedia
- Nestor Makhno – Marxists.org
- The Makhnovshchina in Ukraine 1918-1921 – libcom.org
“`