نشأته وتعليمه
ولد أبراهام يشوع هـِشِل في وارسو ببولندا لعائلة حاخامية مرموقة. تلقى تعليمه الديني التقليدي في سن مبكرة، وبرع في دراسة التلمود والشريعة اليهودية. بالإضافة إلى ذلك، حصل على تعليم أكاديمي واسع، حيث درس في جامعة برلين وجامعة هومبولت. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برلين عام 1933، وكان عنوان أطروحته “النبوءة”.
شكلت سنوات دراسته في ألمانيا فترة حاسمة في تطور فكره. تعرض هـِشِل للتيارات الفكرية والفلسفية المختلفة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل الفلسفة الوجودية والفينومينولوجيا. تأثر بشكل خاص بأفكار مارتن بوبر، الذي كان له تأثير عميق على فهمه للدين والعلاقة بين الإنسان والله.
هجرته إلى أمريكا
مع تصاعد التهديد النازي في أوروبا، أدرك هـِشِل ضرورة مغادرة ألمانيا. في عام 1939، هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث شغل منصب أستاذ الفلسفة اليهودية والأخلاق في الكلية العبرية في سينسيناتي. لاحقًا، انتقل إلى نيويورك، حيث أصبح أستاذًا للأخلاق والروحانية اليهودية في المعهد اللاهوتي اليهودي الأمريكي، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته.
فلسفته اللاهوتية
تميزت فلسفة هـِشِل اللاهوتية بتأكيدها على أهمية “الدهشة” و “الرهبة” في التجربة الدينية. كان يعتقد أن الدين الحقيقي لا يقوم على مجرد الإيمان العقلي أو الالتزام بالقواعد الشرعية، بل على الشعور العميق بالدهشة والرهبة أمام عظمة الله وجمال الكون. كان يرى أن الإنسان مدعو إلى تجاوز حدود العقل والوصول إلى مستوى أعمق من الوعي الروحي، حيث يمكنه أن يتصل بالله بشكل مباشر.
ركز هـِشِل أيضًا على أهمية “التجسيد” في الدين اليهودي. كان يعتقد أن الله ليس مجرد كائن متعال ومنفصل عن العالم، بل هو حاضر في كل مكان وزمان، ويتجلى في كل مظاهر الحياة. كان يرى أن الإنسان مدعو إلى أن يكتشف هذا الحضور الإلهي في العالم من حوله، وأن يعيش حياته بطريقة تعكس هذه الحقيقة.
من المفاهيم الأساسية الأخرى في فلسفة هـِشِل مفهوم “الشركة” بين الإنسان والله. كان يعتقد أن الله ليس مجرد خالق العالم، بل هو أيضًا شريك للإنسان في عملية الخلق المستمرة. كان يرى أن الإنسان مدعو إلى أن يشارك الله في هذه العملية، وأن يعمل معه من أجل إصلاح العالم وتحقيق العدالة والسلام.
- الدهشة والرهبة: أساس التجربة الدينية.
- التجسيد: حضور الله في العالم.
- الشركة: مشاركة الإنسان مع الله في الخلق.
نشاطه الاجتماعي والسياسي
لم يقتصر اهتمام هـِشِل على الجانب اللاهوتي والفلسفي للدين، بل كان أيضًا ناشطًا اجتماعيًا وسياسيًا ملتزمًا. شارك بفاعلية في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وعمل جنبًا إلى جنب مع مارتن لوثر كينغ جونيور من أجل تحقيق المساواة العرقية والعدالة الاجتماعية. كما كان من المعارضين البارزين لحرب فيتنام، ودعا إلى السلام والمصالحة.
كان هـِشِل يعتقد أن الدين لا ينبغي أن يكون مجرد مسألة شخصية، بل يجب أن يكون له تأثير على المجتمع والسياسة. كان يرى أن المؤمنين مدعوون إلى أن يعملوا من أجل إصلاح العالم ومكافحة الظلم والفقر والتمييز. كان يؤمن بأن الدين الحقيقي لا ينفصل عن العمل الاجتماعي والسياسي، وأن المؤمنين يجب أن يكونوا صوتًا للضعفاء والمهمشين.
من أبرز مشاركاته في حركة الحقوق المدنية مسيرته الشهيرة مع مارتن لوثر كينغ جونيور في سلمى بولاية ألاباما عام 1965. وقد عبر عن شعوره العميق بالتضامن مع الأفارقة الأمريكيين في كفاحهم من أجل المساواة والعدالة.
الحوار بين الأديان
كان هـِشِل من دعاة الحوار بين الأديان، وعمل على تعزيز التفاهم والاحترام المتبادل بين اليهود والمسيحيين والمسلمين. كان يعتقد أن الأديان المختلفة يمكن أن تتعاون من أجل تحقيق السلام والعدالة في العالم. كان يرى أن الاختلافات بين الأديان لا ينبغي أن تكون سببًا للصراع والعداء، بل يجب أن تكون مصدرًا للإثراء والتنوع.
شارك هـِشِل في العديد من المؤتمرات واللقاءات بين الأديان، وألقى محاضرات في مختلف الكنائس والمساجد. كان يحظى بتقدير كبير من قبل قادة الأديان الأخرى، وكان يعتبر صوتًا معتدلًا ومحترمًا في الحوار بين الأديان.
مؤلفاته
ترك هـِشِل وراءه مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تناولت مواضيع مختلفة في اللاهوت والفلسفة والأخلاق. من أبرز كتبه:
- الإنسان ليس وحيدًا (Man Is Not Alone): يقدم فيه رؤيته اللاهوتية حول علاقة الإنسان بالله.
- الله يبحث عن الإنسان (God in Search of Man): يستكشف فيه مفهوم الوحي في اليهودية.
- السبت (The Sabbath): يتأمل فيه في أهمية يوم السبت في الحياة اليهودية.
- النبوءة (The Prophets): يقدم فيه دراسة شاملة عن الأنبياء في الكتاب المقدس العبري.
تُرجمت كتب هـِشِل إلى العديد من اللغات، ولا تزال تُقرأ وتُدرس على نطاق واسع حتى اليوم. تعتبر مؤلفاته مساهمة قيمة في الفكر الديني والفلسفي في القرن العشرين.
تأثيره وإرثه
كان لأبراهام يشوع هـِشِل تأثير كبير على الفكر الديني والاجتماعي والسياسي في القرن العشرين. ألهمت أفكاره العديد من الأشخاص حول العالم، ولا يزال إرثه يلهم الأجيال القادمة. يُعتبر هـِشِل شخصية بارزة في تاريخ اليهودية الأمريكية، وأحد أبرز علماء اللاهوت اليهود في العصر الحديث.
يستمر تأثيره من خلال:
- دراسة أعماله اللاهوتية والفلسفية.
- التركيز على العدالة الاجتماعية والأخلاق.
- تعزيز الحوار بين الأديان.
خاتمة
كان أبراهام يشوع هـِشِل حاخامًا وعالمًا لاهوتيًا وفيلسوفًا وناشطًا اجتماعيًا بارزًا. تميزت حياته وفكره بالالتزام العميق بالدين والعدالة الاجتماعية والسلام. ترك وراءه إرثًا غنيًا من المؤلفات والأفكار التي لا تزال تلهم الناس في جميع أنحاء العالم. كان له دور محوري في حركة الحقوق المدنية وفي الحوار بين الأديان، وسيظل اسمه محفورًا في ذاكرة التاريخ كأحد أبرز الشخصيات الدينية والفكرية في القرن العشرين.