خلفية تاريخية
في سبعينيات القرن السابع عشر، تصاعدت المخاوف بشأن خلافة جيمس، دوق يورك، الكاثوليكي على العرش الإنجليزي. أثارت ذكرى الملكة ماري الأولى الكاثوليكية (التي أُطلق عليها لقب “ماري الدموية”)، بالإضافة إلى العلاقات الوثيقة بين تشارلز الثاني ولويس الرابع عشر ملك فرنسا الكاثوليكي، مخاوف واسعة النطاق من عودة محتملة إلى الحكم الكاثوليكي في إنجلترا. تفاقمت هذه المخاوف بسبب الكشف عن “المؤامرة البابوية” عام 1678، وهي مؤامرة ملفقة زعمها تيتوس أوتس، والتي ادعت أن الكاثوليك كانوا يخططون لاغتيال تشارلز الثاني وتنصيب جيمس ملكًا.
أدت هذه الأحداث إلى أزمة الإقصاء، حيث سعى البرلمان إلى استبعاد جيمس من الخلافة. قدم أعضاء البرلمان المؤيدون للإقصاء عدة مشاريع قوانين لتحقيق هذا الهدف، لكن تشارلز الثاني، الذي كان مصممًا على الحفاظ على حق أخيه في العرش، قام بحل البرلمان بشكل متكرر لمنع إقرار هذه القوانين.
في هذا المناخ السياسي المشحون، بدأت مجموعات من الناس في تقديم عرائض إلى الملك تطالبه بعقد البرلمان. كان يُنظر إلى هذه العرائض على أنها وسيلة للضغط على الملك للاستماع إلى مطالب الشعب ومعالجة المخاوف بشأن الخلافة. ومع ذلك، اعتبر البعض هذه العرائض بمثابة تحدٍ لسلطة الملك وتقويضًا للحكومة.
ظهور المُستنكرين
ردًا على العرائض المؤيدة لعقد البرلمان، بدأت مجموعات أخرى في تقديم عرائض مضادة تعبر عن “استنكارها” (abhorrence) لأفعال المُلتمِسين. أطلق على هؤلاء الأشخاص اسم “المُستنكرين”. كان المُستنكرون يرون أن الالتماسات غير قانونية وتزعزع الاستقرار السياسي، وأنها تشكل تعديًا على سلطة الملك الشرعية. اعتقدوا أن الملك هو الحاكم المعين من قبل الله، وأن من واجب رعاياه إطاعة أوامره.
تألف المُستنكرون من مجموعة متنوعة من الأشخاص، بما في ذلك أنصار الكنيسة الأنجليكانية، والنبلاء الموالين، وأولئك الذين خافوا من الفوضى وعدم الاستقرار اللذين قد ينجمان عن الإقصاء. غالبًا ما كانوا أعضاء في الطبقة العليا من المجتمع، وكانوا يتمتعون بنفوذ كبير في مجتمعاتهم المحلية.
استخدم المُستنكرون مجموعة متنوعة من الأساليب للتعبير عن استنكارهم. قاموا بتنظيم اجتماعات عامة، ونشروا كتيبات ومنشورات، وقدموا عرائض مضادة إلى الملك. غالبًا ما كانوا يستخدمون لغة قوية وخطابية في كتاباتهم، وينددون بالمُلتمِسين باعتبارهم مثيري فتنة وخونة.
المُلتمِسون
على الجانب الآخر من هذا الانقسام السياسي كانوا المُلتمِسون (Petitioners)، وهم أولئك الذين دعموا العرائض التي تطالب الملك بعقد البرلمان. كان المُلتمِسون يرون أن البرلمان هو الضامن لحريات الشعب، وأنه من الضروري أن يجتمع البرلمان بانتظام لمعالجة شؤون البلاد. اعتقدوا أيضًا أن للملك واجبًا بالاستماع إلى مطالب شعبه، وأن العرائض كانت وسيلة مشروعة للتعبير عن هذه المطالب.
تألف المُلتمِسون من مجموعة واسعة من الأشخاص، بما في ذلك أعضاء البرلمان، والتجار، والحرفيين، والمنشقين الدينيين. غالبًا ما كانوا من الطبقة الوسطى من المجتمع، وكانوا يتمتعون بدعم شعبي كبير.
واجه المُلتمِسون معارضة شديدة من المُستنكرين والسلطات الحكومية. تعرضوا للمضايقات والاعتقالات والسجن بسبب أنشطتهم. ومع ذلك، ظلوا ملتزمين بقضيتهم، واستمروا في الضغط من أجل عقد البرلمان.
تطور الأحزاب السياسية
يمثل ظهور المُستنكرين والمُلتمِسين بداية تطور النظام الحزبي الإنجليزي. شكل المُستنكرون النواة التي تطورت لاحقًا إلى حزب المحافظين (Tories)، بينما شكل المُلتمِسون النواة التي تطورت لاحقًا إلى حزب الأحرار (Whigs).
كان حزب المحافظين بشكل عام أكثر محافظة وأكثر دعمًا للملك والكنيسة الأنجليكانية. كانوا يعتقدون في أهمية النظام والاستقرار، وكانوا حذرين من التغيير. أما حزب الأحرار، فكان أكثر ليبرالية وأكثر دعمًا لحقوق البرلمان وحريات الشعب. كانوا يعتقدون في أهمية التقدم والإصلاح، وكانوا على استعداد لتحدي سلطة الملك إذا لزم الأمر.
كان للصراع بين المُستنكرين والمُلتمِسين تأثير عميق على السياسة الإنجليزية. ساعد في تشكيل النظام الحزبي، وساهم في تطوير الديمقراطية البرلمانية. كما ساهم في تشكيل الهوية السياسية الإنجليزية.
تأثير المُستنكرين
على الرغم من أن مصطلح “المُستنكرين” لم يعد مستخدمًا اليوم، إلا أن تأثيرهم على السياسة الإنجليزية كان كبيرًا. لقد ساعدوا في تشكيل حزب المحافظين، الذي ظل قوة رئيسية في السياسة البريطانية لعدة قرون. كما ساهموا في تطوير فكرة الولاء للملك والحكومة، وهي فكرة لا تزال مهمة في بريطانيا اليوم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الجدل بين المُستنكرين والمُلتمِسين يسلط الضوء على التوترات الدائمة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبين الحفاظ على النظام والحماية الحريات الفردية. هذه التوترات لا تزال ذات صلة في العديد من الأنظمة السياسية الحديثة.
أمثلة على الشخصيات المرتبطة بالمُستنكرين
على الرغم من أن مفهوم “المُستنكرين” كان حركة جماعية، إلا أن بعض الشخصيات البارزة ارتبطت بشكل خاص بهذه المجموعة. من بين هؤلاء:
- السير ليولين جنكينز: سياسي وقانوني بارز، شغل منصب وزير الخارجية في عهد تشارلز الثاني. كان مدافعًا قويًا عن سلطة الملك ومعارضًا للإقصاء.
- جورج سافيل، إيرل هاليفاكس الأول: على الرغم من أنه كان شخصية معقدة ومتناقضة، إلا أن سافيل كان يُعتبر عمومًا من المحافظين. كان يعتقد في أهمية الاعتدال والتسوية، وحاول التوسط بين الملك والبرلمان.
- لورانس هايد، إيرل روتشستر الأول: كان هايد شخصية بارزة في إدارة تشارلز الثاني وجيمس الثاني. كان يُنظر إليه على أنه محافظ قوي ومدافع عن الكنيسة الأنجليكانية.
من المهم ملاحظة أن هذه الشخصيات لم تكن بالضرورة تصف نفسها بأنها “مُستنكرة”، ولكنها كانت مرتبطة بالحركة بسبب مواقفها السياسية ودعمها للملك.
أهمية دراسة المُستنكرين اليوم
على الرغم من أن أزمة الإقصاء حدثت منذ أكثر من 300 عام، إلا أن دراسة المُستنكرين والمُلتمِسين لا تزال ذات صلة اليوم لعدة أسباب:
- فهم تطور النظام الحزبي: يساعدنا فهم المُستنكرين والمُلتمِسين على فهم جذور النظام الحزبي في الديمقراطيات الغربية.
- تحليل التوترات السياسية: يكشف الصراع بين المُستنكرين والمُلتمِسين عن التوترات الدائمة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبين الحفاظ على النظام وحماية الحريات الفردية.
- تقييم دور الرأي العام: يوضح الجدل حول العرائض أهمية الرأي العام في السياسة، وكيف يمكن استخدامه للضغط على الحكومات.
- التعرف على التحيزات السياسية: من خلال دراسة المواقف المختلفة للمُستنكرين والمُلتمِسين، يمكننا أن نصبح أكثر وعيًا بتحيزاتنا السياسية الخاصة.
خاتمة
كان المُستنكرون حركة سياسية ظهرت في إنجلترا في عام 1679 ردًا على العرائض المطالبة بعقد البرلمان. مثلوا بداية تطور حزب المحافظين، ولعبوا دورًا مهمًا في أزمة الإقصاء. على الرغم من أن مصطلح “المُستنكرين” لم يعد مستخدمًا اليوم، إلا أن تأثيرهم على السياسة الإنجليزية كان كبيرًا، ولا تزال دراستهم ذات صلة اليوم لفهم تطور النظام الحزبي، وتحليل التوترات السياسية، وتقييم دور الرأي العام.