خلفية تاريخية
شهدت بولندا في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين فترة من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية. أدى ارتفاع الأسعار، ونقص السلع الأساسية، وتدهور الأوضاع المعيشية إلى استياء واسع النطاق بين العمال. بالإضافة إلى ذلك، كان القمع السياسي والقيود المفروضة على الحريات المدنية من العوامل المساهمة في تصاعد التوتر. في عام 1976، اندلعت احتجاجات في عدة مدن بولندية، بما في ذلك وارسو، ولوج، ورادوم، بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية. قمعت الحكومة هذه الاحتجاجات بعنف، مما أدى إلى اعتقال الآلاف من الأشخاص.
ومع ذلك، لم يؤد هذا القمع إلى إخماد روح المعارضة. استمرت مجموعات المعارضة السرية في العمل، ونشرت مطبوعات سرية، ونظمت فعاليات ثقافية مستقلة. في عام 1978، تشكلت “حركة الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن” (ROPCiO)، وهي أول منظمة معارضة علنية في بولندا. قدمت هذه المنظمة الدعم القانوني والمالي للعمال والناشطين الذين تعرضوا للاضطهاد.
نشأة اللجنة
في أغسطس 1980، اندلعت سلسلة من الإضرابات في حوض بناء السفن في غدانسك، بعد إقالة عاملة تدعى آنا فالنتينوفيتش، وهي ناشطة في مجال حقوق العمال، بسبب نشاطها النقابي. توسعت الإضرابات بسرعة لتشمل مصانع وشركات أخرى في منطقة غدانسك. في 16 أغسطس 1980، اجتمع ممثلو مختلف المصانع والشركات لتشكيل اللجنة الإضرابية المشتركة بين المؤسسات. كانت مهمة اللجنة هي تنسيق الإضرابات وتوحيد مطالب العمال، والتفاوض مع الحكومة.
ترأس اللجنة ليخ فاليسا، وهو عامل كهربائي في حوض بناء السفن في غدانسك، والذي أصبح فيما بعد رمزًا لحركة تضامن ورئيسًا لبولندا. تكونت اللجنة من ممثلين عن مختلف المصانع والشركات، بما في ذلك عمال حوض بناء السفن، والمهندسين، والعمال الصناعيين. كان أعضاء اللجنة يتمتعون بخبرات متنوعة، ولكنهم اتحدوا جميعًا في هدفهم المتمثل في تحسين أوضاع العمال والدفاع عن حقوقهم.
أهداف ومطالب اللجنة
وضعت اللجنة قائمة من 21 مطلبًا، عُرفت باسم “مطالب أغسطس”. كانت هذه المطالب بمثابة برنامج عمل لحركة العمال، وعكست مظالمهم الأساسية. تضمنت المطالب ما يلي:
- الاعتراف بالنقابات العمالية المستقلة وحق الإضراب.
- ضمان حرية التعبير والنشر.
- الإفراج عن السجناء السياسيين.
- تحسين الأجور وظروف العمل.
- توفير الرعاية الصحية والاجتماعية الأفضل.
- الوصول إلى وسائل الإعلام الحكومية.
- إنهاء الرقابة على وسائل الإعلام.
- السماح للعمال بالمشاركة في اتخاذ القرارات في مكان العمل.
كانت هذه المطالب بمثابة تحدٍ مباشر لسلطة الحكومة الشيوعية، التي كانت تسيطر على جميع جوانب الحياة في بولندا. أصرت اللجنة على التفاوض مع الحكومة بشأن هذه المطالب، ورفضت أي حلول وسط.
دور اللجنة في الإضرابات
لعبت اللجنة دورًا حاسمًا في تنظيم الإضرابات وتوسيع نطاقها. قامت اللجنة بتنسيق أنشطة العمال في مختلف المصانع والشركات، وتبادل المعلومات، وتوفير الدعم المالي واللوجستي للمضربين. كما قامت اللجنة بتنظيم فعاليات تضامنية مع العمال المضربين، بما في ذلك المسيرات والاجتماعات العامة.
كانت اللجنة مسؤولة عن التفاوض مع الحكومة البولندية. واجهت اللجنة صعوبات جمة في هذه المفاوضات، حيث حاولت الحكومة في البداية قمع الإضرابات بالقوة. ومع ذلك، أصرت اللجنة على مطالبها، ونجحت في النهاية في إجبار الحكومة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
اتفاقات أغسطس
في 31 أغسطس 1980، وقعت اللجنة والحكومة البولندية على اتفاقيات أغسطس في غدانسك. مثلت هذه الاتفاقيات انتصارًا تاريخيًا للعمال، وحققت العديد من مطالبهم. شملت الاتفاقيات ما يلي:
- الاعتراف بحق العمال في تشكيل نقابات عمالية مستقلة.
- الحق في الإضراب.
- ضمان حرية التعبير والنشر.
- الإفراج عن السجناء السياسيين.
- تحسين الأجور وظروف العمل.
كانت اتفاقيات أغسطس بمثابة علامة فارقة في تاريخ بولندا. فتحت هذه الاتفاقيات الباب أمام تأسيس حركة “تضامن”، التي أصبحت قوة سياسية واجتماعية رئيسية في بولندا. مكّنت الاتفاقيات العمال من المطالبة بحقوقهم، وممارسة حرياتهم الأساسية، والمشاركة في اتخاذ القرارات في مكان العمل.
تأسيس حركة “تضامن”
بعد توقيع اتفاقيات أغسطس، تأسست حركة “تضامن” في سبتمبر 1980. كانت “تضامن” أول نقابة عمالية مستقلة في الكتلة الشرقية، وسرعان ما اكتسبت شعبية واسعة النطاق في جميع أنحاء بولندا. تضمّنت الحركة ملايين الأعضاء من مختلف شرائح المجتمع، بما في ذلك العمال والمثقفين والطلاب ورجال الدين. قاد ليخ فاليسا حركة “تضامن”.
عملت “تضامن” على تحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، بما في ذلك تحسين الأجور وظروف العمل، وحماية حقوق العمال، وتعزيز الحريات المدنية، والإصلاح الديمقراطي. استخدمت الحركة مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك المفاوضات والإضرابات والاحتجاجات السلمية. نمت “تضامن” بسرعة وأصبحت قوة سياسية واجتماعية رئيسية في بولندا، متحدية نظام الحكم الشيوعي.
الحرب وإعلان الأحكام العرفية
أثارت أنشطة “تضامن” قلق الحكومة البولندية والاتحاد السوفيتي، الذي كان يخشى انتشار المعارضة في الكتلة الشرقية. في 13 ديسمبر 1981، أعلنت الحكومة البولندية الأحكام العرفية، في محاولة لقمع “تضامن”. تم اعتقال الآلاف من قادة وأعضاء “تضامن”، وتم حظر أنشطة الحركة. قام الجيش والشرطة بقمع الاحتجاجات، مما أسفر عن مقتل وإصابة العديد من الأشخاص.
على الرغم من الأحكام العرفية، استمرت “تضامن” في المقاومة في السر. نظمت الحركة إضرابات سرية، ووزعت منشورات سرية، ونشرت صحفًا سرية. في عام 1982، حُكم على ليخ فاليسا بالسجن، لكنه أُطلق سراحه في العام التالي. استمرت “تضامن” في العمل في السر حتى عام 1988.
التحول الديمقراطي
في عام 1988، استأنفت “تضامن” أنشطتها العلنية. في نفس العام، اندلعت موجة جديدة من الإضرابات في جميع أنحاء بولندا. أدركت الحكومة البولندية أن نظامها الشيوعي قد فشل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وأن الإصلاحات كانت ضرورية. في عام 1989، بدأت الحكومة و”تضامن” مفاوضات طاولة مستديرة.
أسفرت مفاوضات الطاولة المستديرة عن اتفاقية تاريخية، والتي نصت على إجراء انتخابات حرة وشبه ديمقراطية. في انتخابات يونيو 1989، فازت “تضامن” بأغلبية ساحقة من الأصوات. في أغسطس 1989، أصبح تاديوس مازوفيتسكي، وهو عضو في “تضامن”، رئيسًا لوزراء بولندا. مثل هذا الحدث نهاية الحكم الشيوعي في بولندا وبداية التحول الديمقراطي.
كانت اللجنة الإضرابية المشتركة بين المؤسسات عاملاً حاسمًا في تحقيق هذا التحول. لعبت اللجنة دورًا محوريًا في توحيد العمال، وتنسيق الإضرابات، والتفاوض مع الحكومة. ساهمت اللجنة في تأسيس حركة “تضامن”، والتي لعبت دورًا رئيسيًا في سقوط الشيوعية في بولندا.
إرث اللجنة
ترك اللجنة الإضرابية المشتركة بين المؤسسات إرثًا دائمًا في تاريخ بولندا والعالم. كانت اللجنة مثالاً على قوة التضامن العمالي، وأظهرت كيف يمكن للعمال أن يوحدوا جهودهم لتحقيق التغيير. ألهمت اللجنة حركات المعارضة في جميع أنحاء العالم، وساعدت في إلهام سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية. تعتبر اللجنة رمزًا للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
خاتمة
كانت اللجنة الإضرابية المشتركة بين المؤسسات بمثابة نقطة تحول في تاريخ بولندا، ومهدت الطريق لتأسيس حركة “تضامن” وسقوط الشيوعية. من خلال توحيد العمال والتفاوض مع الحكومة، حققت اللجنة إنجازات تاريخية. يعتبر إرث اللجنة بمثابة تذكير دائم بأهمية التضامن والحرية وحقوق الإنسان.