خلفية تاريخية
بعد تدمير الهيكل الثاني في القدس عام 70 م على يد الرومان، ظلت المدينة وما حولها منطقة متوترة. شهدت المنطقة عدة ثورات يهودية ضد الحكم الروماني، بلغت ذروتها في ثورة بار كوخبا (132-135 م). كانت هذه الثورة بمثابة نقطة تحول، حيث قرر الإمبراطور هادريان تغيير الوضع الراهن بشكل جذري.
عندما أخمد هادريان ثورة بار كوخبا بوحشية، اتخذ قرارًا بإنشاء مدينة رومانية جديدة على أنقاض القدس. كان الهدف من هذا القرار هو قمع أي أمل يهودي في الاستقلال، وتأكيد السلطة الرومانية على المنطقة، وتحويل المدينة إلى مركز روماني وثني.
تأسيس إيليا كابيتولينا
تم بناء إيليا كابيتولينا وفقًا للتصميم الروماني النموذجي للمدن، مع شبكة شوارع مستقيمة وزوايا قائمة. تم بناء معبد مخصص لكوكب المشتري (جوبيتر) على موقع الهيكل اليهودي المدمر، وتم تشييد معابد أخرى للآلهة الرومانية الأخرى. تم تزيين المدينة بالحمامات والأسواق والمباني العامة الأخرى التي كانت شائعة في المدن الرومانية.
تم حظر اليهود من دخول المدينة، باستثناء يوم واحد في السنة لإحياء ذكرى تدمير الهيكل. تم تغيير اسم مقاطعة يهودا إلى سوريا فلسطين، في محاولة أخرى لمحو أي ارتباط يهودي بالأرض.
يشتق اسم “إيليا كابيتولينا” من اسم هادريان، وهو “بوليوس إيليوس هادريانوس” (Publius Aelius Hadrianus)، و”كابيتولينا” إشارة إلى كابيتولين هيل في روما، حيث يقع معبد جوبيتر أوبتيموس ماكسيموس، إله الدولة الرومانية.
التخطيط العمراني والمعالم
تم تخطيط إيليا كابيتولينا وفقًا لنمط المدن الرومانية التقليدية، مع شبكة شوارع منتظمة ومتقاطعة. كانت الشوارع الرئيسية عبارة عن كاردو (cardo) وديكومانوس (decumanus)، يتقاطعان في وسط المدينة. تم بناء البوابات الرئيسية في المدينة على طول هذه الشوارع، مما يسمح بالوصول إلى المناطق المحيطة.
المعالم الرئيسية في إيليا كابيتولينا شملت:
- معبد جوبيتر: بُني على موقع الهيكل اليهودي، وكان رمزًا للهيمنة الرومانية.
- معابد أخرى: تم بناء معابد للآلهة الرومانية الأخرى، مثل فينوس ومارس.
- الحمامات: كانت الحمامات العامة جزءًا مهمًا من الحياة الرومانية، وكانت موجودة في جميع المدن الرومانية.
- الأسواق: كانت الأسواق مراكز للتجارة والتبادل التجاري.
- المسرح: كان المسرح مكانًا للترفيه والعروض العامة.
تم بناء العديد من المباني العامة الأخرى في إيليا كابيتولينا، مثل مباني الإدارة والمكتبات. تم تزويد المدينة بالمياه عن طريق قنوات المياه، وتم بناء نظام صرف صحي لإدارة النفايات.
السكان
تم استعمار إيليا كابيتولينا من قبل قدامى المحاربين الرومان والمستوطنين من أجزاء أخرى من الإمبراطورية الرومانية. كان السكان خليطًا من الرومان واليونانيين والسوريين وغيرهم من الشعوب. كانت اللغة الرسمية للمدينة هي اللاتينية، ولكن تم التحدث باليونانية أيضًا على نطاق واسع.
لم يُسمح لليهود بالعيش في المدينة في البداية، ولكن سُمح لبعض المسيحيين بالإقامة فيها. أصبحت إيليا كابيتولينا مركزًا مهمًا للمسيحية في القرون اللاحقة.
الأهمية
كان لتأسيس إيليا كابيتولينا آثار بعيدة المدى على تاريخ القدس والمنطقة المحيطة بها. كان بمثابة نهاية للوجود اليهودي المستقل في القدس لعدة قرون، وأدى إلى تغييرات كبيرة في التركيبة السكانية للمدينة وهويتها الثقافية.
أصبحت إيليا كابيتولينا مركزًا رومانيًا وثنيًا مهمًا، ولعبت دورًا مهمًا في الإدارة الرومانية للمنطقة. كما أصبحت مركزًا مهمًا للمسيحية في القرون اللاحقة، خاصة بعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية.
إيليا كابيتولينا والمسيحية
على الرغم من أن إيليا كابيتولينا تأسست كمدينة وثنية، إلا أنها اكتسبت أهمية كبيرة للمسيحيين في القرون اللاحقة. أصبح الموقع مرتبطًا بالأحداث الرئيسية في حياة يسوع المسيح، مثل الصلب والقيامة. بدأ الحجاج المسيحيون في زيارة المدينة بأعداد كبيرة، وتم بناء الكنائس والأديرة في جميع أنحاء المدينة.
في القرن الرابع الميلادي، قامت الإمبراطورة هيلينا، والدة الإمبراطور قسطنطين، بزيارة القدس وقامت بتحديد العديد من المواقع المقدسة المسيحية، بما في ذلك قبر يسوع. تم بناء كنيسة القيامة على هذا الموقع، وأصبحت واحدة من أهم الكنائس في العالم المسيحي.
خلال الفترة البيزنطية، أصبحت القدس مركزًا مسيحيًا رئيسيًا، وتم بناء العديد من الكنائس والأديرة الأخرى في المدينة وحولها. استمرت أهمية القدس بالنسبة للمسيحيين طوال العصور الوسطى والعصر الحديث.
التحول إلى القدس
مع مرور الوقت، بدأت إيليا كابيتولينا تفقد هويتها الرومانية الوثنية تدريجياً، وبدأت تكتسب هوية مسيحية بشكل متزايد. بحلول الفترة البيزنطية، تم استعادة اسم “القدس” إلى حد كبير، وأصبحت المدينة مركزًا مسيحيًا مهمًا.
على الرغم من أن المدينة لم تعد تُعرف رسميًا باسم إيليا كابيتولينا، إلا أن الاسم ظل قيد الاستخدام لبعض الوقت، خاصة في الكتابات التاريخية. ومع ذلك، بحلول نهاية العصور القديمة المتأخرة، تم استبدال الاسم تمامًا باسم القدس.
الاكتشافات الأثرية
كشفت الحفريات الأثرية في القدس عن العديد من الآثار التي تعود إلى فترة إيليا كابيتولينا. تشمل هذه الآثار بقايا الشوارع والمباني والمعابد الرومانية، بالإضافة إلى العديد من القطع الأثرية الأخرى.
تساعد هذه الاكتشافات الأثرية على فهم أفضل لتخطيط المدينة وحياة سكانها خلال الفترة الرومانية. كما أنها توفر أدلة على التغييرات التي حدثت في المدينة على مر القرون، من مدينة رومانية وثنية إلى مركز مسيحي مهم.
إرث إيليا كابيتولينا
على الرغم من أن إيليا كابيتولينا لم تعد موجودة كمدينة مستقلة، إلا أن لها إرثًا دائمًا في تاريخ القدس والمنطقة المحيطة بها. كان لتأسيس المدينة تأثير كبير على التركيبة السكانية للمدينة وهويتها الثقافية، ولعبت دورًا مهمًا في الإدارة الرومانية للمنطقة.
كما أصبحت إيليا كابيتولينا مركزًا مهمًا للمسيحية في القرون اللاحقة، وساعدت في ترسيخ أهمية القدس كمدينة مقدسة للمسيحيين. لا تزال آثار المدينة الرومانية مرئية في القدس اليوم، وهي بمثابة تذكير بتاريخ المدينة الغني والمتنوع.
خاتمة
إيليا كابيتولينا هي مستعمرة رومانية تأسست في القدس في القرن الثاني الميلادي بعد قمع ثورة بار كوخبا. تأسست المدينة بأمر من الإمبراطور هادريان بهدف طمس الهوية اليهودية للمدينة وتحويلها إلى مركز روماني وثني. على الرغم من أن إيليا كابيتولينا لم تدم طويلًا كهوية مستقلة، إلا أن تأثيرها على تاريخ القدس والمنطقة المحيطة بها كان كبيرًا. تحولت لاحقًا إلى مركز مسيحي مهم، ولا تزال آثارها مرئية حتى اليوم.