خلفية تاريخية
بعد إعدام الملك تشارلز الأول في عام 1649، أغلقت السلطات البرلمانية جميع المسارح في إنجلترا. واعتبرت المسرحيات في ذلك الوقت بمثابة ترفيه غير لائق ومخالف للأخلاق، وأداة لنشر الأفكار غير المرغوب فيها. استمر هذا الحظر لمدة ثمانية عشر عامًا، مما أدى إلى تدهور صناعة المسرح بشكل كبير. ومع عودة الملكية، كان هناك تعطش كبير للترفيه، وكان المسرح في طليعة هذه العودة.
عندما تولى تشارلز الثاني العرش، كان يدرك أهمية المسرح كشكل من أشكال التعبير الثقافي والسياسي. ومع ذلك، كان حريصًا أيضًا على ممارسة السيطرة على هذه الصناعة. لهذا الغرض، منح الملك براءات اختراع (Patent) إلى شركتين مسرحيتين فقط في لندن، مما منحهما الحق الحصري في تقديم الدراما المنطوقة. هكذا ولدت مسارح البراءات.
نشأة مسارح البراءات
في عام 1660، منح الملك تشارلز الثاني براءات اختراع إلى شركتين مسرحيتين فقط: “شركة دوق يورك” (التي أصبحت فيما بعد شركة الملك)، و “شركة كيلغريو”. حصلت هذه الشركات على احتكار فعال لعرض المسرحيات المتكلمة في لندن. تأسست شركة دوق يورك بقيادة السير ويليام ديفينانت، بينما ترأس شركة كيلغريو توماس كيلغريو. تمتع كل من هؤلاء الرجال بنفوذ كبير في البلاط الملكي، مما ساعدهم على تأمين هذه البراءات القيمة.
كانت هذه البراءات حاسمة في تحديد مسار المسرح الإنجليزي في العقود التالية. سمحت للمسارح المعتمدة بالازدهار، بينما اضطرت المسارح الأخرى إلى العمل بشكل غير قانوني، أو التركيز على أشكال ترفيهية أخرى مثل الموسيقى والرقص. أدت هذه السيطرة إلى نشوء منافسة شديدة بين مسارح البراءات، مما أثر على جودة المسرحيات والابتكارات المسرحية.
خصائص مسارح البراءات
تميزت مسارح البراءات بعدة خصائص رئيسية:
- الاحتكار: كما ذكرنا، حصلت مسارح البراءات على احتكار لتقديم الدراما المنطوقة. هذا الاحتكار منحها ميزة تنافسية كبيرة، وسمح لها بالسيطرة على سوق المسرح.
- الرقابة: خضعت جميع المسرحيات المقدمة في مسارح البراءات لرقابة صارمة من قبل “اللورد تشامبرلين”، وهو مسؤول ملكي كان مسؤولًا عن الموافقة على النصوص قبل عرضها. هدفت هذه الرقابة إلى منع أي مواد تعتبر مسيئة أو تحريضية أو تهدد النظام الملكي.
- الهندسة المعمارية والتصميم: تميزت مسارح البراءات بتصميمها وهندستها المعمارية الفخمة. كانت هذه المسارح كبيرة، ومزودة بتقنيات مسرحية متطورة، مثل الإضاءة والآلات، لإنتاج عروض مسرحية أكثر إبهارًا.
- التمثيل الاحترافي: وظفت مسارح البراءات فرقًا من الممثلين المحترفين. غالبًا ما كان الممثلون يوقعون عقودًا طويلة الأجل مع المسارح، مما أدى إلى تطوير نظام تمثيل أكثر احترافية.
- الجمهور: استقطبت مسارح البراءات جمهورًا متنوعًا، بما في ذلك النبلاء، وأفراد الطبقة المتوسطة، وحتى بعض أفراد الطبقات الدنيا. ساهم هذا الاختلاط الاجتماعي في جعل المسرح مكانًا للتبادل الثقافي والاجتماعي.
التأثير على المسرح الإنجليزي
كان لمسارح البراءات تأثير كبير على المسرح الإنجليزي. فقد ساهمت في:
- تطوير الدراما: حفزت المنافسة بين المسارح على إنتاج مسرحيات جديدة ومبتكرة. شجعت هذه المنافسة الكتاب على تجربة أنواع وأنماط جديدة من الدراما، مثل الكوميديا الاستعادية والدراما السياسية.
- تغيير أساليب التمثيل: أدى ظهور التمثيل الاحترافي إلى تغيير أساليب التمثيل. أصبح الممثلون أكثر تدريبًا، وركزوا على تطوير مهاراتهم في الصوت والحركة والتعبير.
- تعزيز المشهد المسرحي: ساهمت مسارح البراءات في تعزيز المشهد المسرحي في لندن. فقد وفرت فرص عمل للممثلين والكتاب والمصممين، وجذبت جمهورًا كبيرًا إلى المسرح.
- فرض الرقابة: في حين أنها كانت تهدف إلى السيطرة على الدراما، فرضت الرقابة على النصوص المسرحية قيودًا على حرية التعبير. أدت هذه الرقابة إلى حذف أو تعديل بعض المسرحيات، مما أثر على المحتوى الفني في بعض الأحيان.
أبرز مسارح البراءات
على الرغم من وجود مسارح قليلة مُرخَّصة، إلا أن بعضها أصبح مشهورًا وأكثر تأثيرًا:
- مسرح دروري لين: تأسس في عام 1663، وهو أحد أقدم وأشهر المسارح في العالم. كان مسرح دروري لين موطنًا للعديد من العروض المسرحية التاريخية، واستمر في العمل حتى يومنا هذا.
- مسرح كوفنت غاردن: تأسس في عام 1732، وكان منافسًا رئيسيًا لمسرح دروري لين. اشتهر بإنتاجاته الفخمة، وباهتمامه بالأوبرا والباليه.
نهاية عصر مسارح البراءات
استمر نظام مسارح البراءات لأكثر من قرن. ومع ذلك، في القرن التاسع عشر، بدأ هذا النظام في التدهور. تسببت القيود المفروضة على المسرح، والرقابة الصارمة، في إعاقة الابتكار والإبداع. بالإضافة إلى ذلك، أدت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية إلى زيادة الطلب على أشكال جديدة من الترفيه. في عام 1843، أقر البرلمان قانونًا جديدًا للمسارح، أنهى احتكار مسارح البراءات. فتح هذا القانون الباب أمام تأسيس مسارح جديدة، مما أدى إلى ازدهار المسرح في بريطانيا.
الإرث
ترك نظام مسارح البراءات إرثًا دائمًا على المسرح الإنجليزي. فقد ساهم في تطوير الدراما، ووضع معايير جديدة للتمثيل، وأسس تقاليد مسرحية استمرت حتى يومنا هذا. على الرغم من القيود والرقابة، كانت مسارح البراءات بمثابة مراكز ثقافية مهمة، حيث اجتمع فيها الناس لمشاهدة العروض المسرحية، وتبادل الأفكار، والاستمتاع بالترفيه.
أهمية دراسة مسارح البراءات
تعتبر دراسة مسارح البراءات أمرًا مهمًا لعدة أسباب:
- فهم تطور المسرح: تساعدنا دراسة مسارح البراءات على فهم كيف تطور المسرح الإنجليزي من فترة الإغلاق إلى عصر الازدهار.
- تقدير التحديات التي تواجه الفنانين: توضح لنا مسارح البراءات التحديات التي واجهها الفنانون في ظل الرقابة والقيود الحكومية.
- فهم العلاقة بين المسرح والمجتمع: تعلمنا دراسة مسارح البراءات كيف يعكس المسرح قيم المجتمع وتغيراته.
- استخلاص الدروس من الماضي: يمكننا من خلال دراسة تاريخ مسارح البراءات أن نستخلص دروسًا قيمة حول أهمية حرية التعبير، ودور الفن في المجتمع.
الخاتمة
كانت مسارح البراءات مؤسسات محورية في تاريخ المسرح الإنجليزي. على الرغم من القيود المفروضة عليها، فقد لعبت دورًا حاسمًا في تطوير الدراما، ووضع معايير جديدة للتمثيل، وتعزيز المشهد المسرحي في بريطانيا. من خلال دراسة مسارح البراءات، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل كيف تشكل المسرح على مر العصور، وكيف يعكس ويعبر عن قيم مجتمعاتنا.