خلفية تاريخية وثقافية
لكي نفهم فيليبي 2 بشكل كامل، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والثقافي الذي كُتبت فيه الرسالة. كُتبت رسالة فيلبي بواسطة الرسول بولس بينما كان مسجونًا، ربما في روما أو أفسس. كانت فيلبي مدينة رومانية هامة تقع في مقدونيا (اليونان الحديثة). كان أهل فيلبي يتمتعون بتقدير كبير للثقافة الرومانية والفخر بالمواطنة الرومانية.
كان بولس يكنّ محبة خاصة لأهل فيلبي، وهو ما يظهر جلياً في نبرة الرسالة الودية والدافئة. كان لديهم علاقة قوية معه، وكانوا يدعمون خدمته في الإنجيل. يهدف الفصل 2 بشكل خاص إلى معالجة بعض المشاكل المتعلقة بالوحدة والتنافس في الكنيسة الفيلبية، بالإضافة إلى تقديم تشجيع وتعليم حول حياة المسيح.
الفقرة الأولى: مثال المسيح في التواضع (2:1-11)
تعتبر هذه الفقرة من أهم أجزاء فيليبي 2، وهي تقدم واحدة من أكثر النصوص تأثيراً في اللاهوت المسيحي. يبدأ بولس بالحث على الوحدة والتواضع، ويذكر العوامل التي تعزز هذه الصفات:
- التشجيع في المسيح: أي الدعم والتعزية المستمدة من الإيمان بالمسيح.
- تعزية المحبة: أي الخبرة المشتركة لمحبة الله.
- شركة الروح: أي العلاقة الروحية التي تجمع المؤمنين بالروح القدس.
- رأفة وأحشاء: أي التعاطف والحنان.
ثم ينتقل بولس إلى وصف مثال المسيح في التواضع، فيقدم لنا ما يسمى “ترنيمة المسيح” أو “قصيدة التواضع”. هذه القصيدة هي جوهر رسالة بولس وتوضح طبيعة المسيح كإله، وتنازله، ورفعه. تحتوي القصيدة على عدة مراحل:
- طبيعة المسيح الإلهية: “الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله خطفاً.” (2:6) يشير هذا إلى ألوهية المسيح، وكونه مساويًا لله.
- تنازل المسيح: “لكنّه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس.” (2:7) يوضح هذا التنازل العظيم للمسيح، الذي ترك مجده السماوي واتخذ طبيعة بشرية.
- طاعة المسيح: “وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب.” (2:8) يظهر هنا طاعة المسيح الكاملة لله، حتى الموت على الصليب.
- رفع المسيح: “لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم.” (2:9) يكافئ الله المسيح على طاعته، ويرفعه فوق كل شيء.
- سيادة المسيح: “لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب.” (2:10-11) يعلن هذا اعتراف كل واحد بالمسيح كرب، مما يؤدي إلى مجد الله الآب.
هذه الفقرة تقدم صورة رائعة عن تواضع المسيح وطاعته. إنه مثال حي للمؤمنين ليتبعوه في حياتهم اليومية. إنها تدعوهم إلى التفكير في المسيح والتركيز على احتياجات الآخرين بدلاً من الاهتمام بالمصالح الشخصية.
الفقرة الثانية: دعوة إلى حياة مسيحية (2:12-18)
بعد أن قدم بولس مثال المسيح، ينتقل إلى تطبيق عملي لهذا المثال على حياة المؤمنين. يدعوهم إلى العمل على خلاصهم بخوف ورعدة. هذا لا يعني أن الخلاص يعتمد على الأعمال، بل يشير إلى ضرورة أن يعيش المؤمنون حياة مقدسة تتوافق مع إيمانهم. فالخلاص هو عمل الله، ولكن يجب على المؤمنين أن يسعوا جاهدين ليعيشوا حياة ترضي الله.
يقول بولس:
- “اعملوا خلاصكم بخوف ورعدة” (2:12). يشير هذا إلى أن الخلاص هو عملية مستمرة، تتطلب جهداً وتعاوناً مع الله.
- “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة” (2:13). يوضح هذا أن الله يعمل في المؤمنين، ويعطيهم الرغبة والقدرة على إطاعة وصاياه.
ثم يشجع بولس المؤمنين على:
- فعل كل شيء بدون تذمر ولا جدال: (2:14) يدعو إلى تجنب الشكاوى والنزاعات، والتحلي بروح إيجابية.
- أن يكونوا بلا لوم وبسطاء: (2:15) يدعو إلى أن يعيشوا حياة طاهرة ونقية في هذا العالم الشرير.
- أن يمسكوا بكلمة الحياة: (2:16) يدعو إلى أن يتمسكوا بالإنجيل ويعيشوا وفقاً له.
- أن يظهروا كأنوار في العالم: (2:15) يدعوهم إلى أن يكونوا شهوداً للمسيح، وينعكس نورهم على الآخرين.
في نهاية هذه الفقرة، يعبر بولس عن فرحه، حتى لو كان سيُسفك دمه كتقدمة على خدمة إيمانهم. هذا يدل على تفانيه في خدمة المسيح ورغبته في رؤية المؤمنين ينمون في إيمانهم.
الفقرة الثالثة: أمثلة من حياة تيموثاوس وأبافرودتس (2:19-30)
يقدم بولس مثالين إضافيين: تيموثاوس وأبافرودتس. يقدم هؤلاء الرجال كأمثلة على الخدمة المتفانية والتضحية.
- تيموثاوس: كان تيموثاوس مساعدًا مخلصًا لبولس. يصفه بولس بأنه “ابن” له في الإيمان. يعتقد بولس أنه سيرسل تيموثاوس إلى فيلبي ليعرف أخبارهم، لأنه يشارك بولس اهتماماتهم ويهتم بهم حقًا. (2:19-24)
- أبافرودتس: كان أبافرودتس رسولاً من كنيسة فيلبي إلى بولس، وقد أحضر له هدايا. كان مريضًا على وشك الموت أثناء خدمته لبولس. يمدح بولس أبافرودتس على تفانيه في خدمة الإنجيل وتضحيته. يعبر بولس عن رغبته في إرسال أبافرودتس إلى فيلبي، لأنه كان مشتاقًا لرؤيتهم، وكانوا هم أيضًا مشتاقين لرؤيته. (2:25-30)
يوضح هذان المثالان أهمية الخدمة المخلصة والتضحية في حياة المؤمنين. كما أنهما يقدمان تشجيعًا للمؤمنين على الاهتمام ببعضهم البعض وخدمة بعضهم البعض.
المعاني اللاهوتية والتطبيق العملي
فيليبي 2 مليئة بالمعاني اللاهوتية العميقة التي تؤثر على حياة المؤمنين. بعض النقاط الرئيسية تشمل:
- تواضع المسيح: يمثل مثال المسيح في التواضع جوهر الإنجيل. إنه يدعو المؤمنين إلى التفكير في الآخرين، ووضع احتياجاتهم فوق احتياجاتهم الشخصية.
- طاعة المسيح: تظهر طاعة المسيح الكاملة لله أهمية طاعة الله في حياة المؤمنين.
- الوحدة: يؤكد الفصل على أهمية الوحدة بين المؤمنين، وتجنب التذمر والجدال.
- الخدمة: يقدم تيموثاوس وأبافرودتس أمثلة على الخدمة المتفانية والتضحية.
- الخلاص: يؤكد على عمل المؤمنين على خلاصهم، من خلال عيش حياة ترضي الله.
يمكن تطبيق تعاليم فيليبي 2 في الحياة اليومية من خلال:
- التواضع: السعي إلى أن نكون متواضعين في تعاملاتنا مع الآخرين.
- خدمة الآخرين: البحث عن طرق لخدمة الآخرين، سواء في الكنيسة أو في المجتمع.
- الوحدة: السعي إلى الوحدة مع المؤمنين الآخرين، وتجنب التذمر والجدال.
- الطاعة: محاولة طاعة الله في كل شيء.
- الشكر: أن نكون شاكرين لله على كل ما أعطانا.
خاتمة
فيليبي 2 هو فصل غني بالمعلومات والتعاليم، يمثل دعوة قوية للمؤمنين إلى التواضع، والطاعة، والوحدة، والخدمة، والعيش حياة ترضي الله. يقدم هذا الفصل مثالاً رائعًا على حياة المسيح، ويدعو المؤمنين إلى أن يتبعوه في كل جوانب حياتهم. من خلال فهم تعاليم فيليبي 2 وتطبيقها، يمكن للمؤمنين أن ينموا في إيمانهم ويساهموا في بناء مجتمع مسيحي قوي ومحب.