خلفية تاريخية
بدأت رحلة لورد في هذا المجال بالتعاون مع ميلرمان بيري، رائد الدراسات الهومرية. كان بيري قد طور بالفعل فكرة أن الإلياذة والأوديسة، وهما من أهم الملاحم في الأدب الغربي، قد تم تأليفهما من خلال عملية شفهية. بعد وفاة بيري المبكرة، واصل لورد هذا العمل، وقام هو وباحثون آخرون برحلات ميدانية إلى يوغوسلافيا، حيث قاموا بتسجيل آلاف القصص الملحمية التي يؤديها الرواة الشفهيون. هذه القصص، التي غالبًا ما كانت تُروى في مجتمعات ريفية، وفرت مادة غنية لتحليل لورد.
نظرية التكوين الشفهي
القلب النابض لكتاب “مغني الحكايات” هو نظرية لورد عن التكوين الشفهي. وفقًا لهذه النظرية، فإن القصص الملحمية الشفهية لا تُؤلف بالمعنى التقليدي للكلمة، بل تُنتج من خلال عملية ارتجال تعتمد على مخزون من الموضوعات والعبارات الجاهزة والأساليب السردية. لا يحفظ الرواة القصص كلمة بكلمة؛ بل يستخدمون نظامًا معقدًا من الأنماط اللغوية والموضوعات المتكررة لبناء القصة في كل أداء جديد.
الموضوعات هي وحدات سردية متكررة، مثل وصف البطل أو معركة أو رحلة. العبارات الجاهزة هي عبارات أو جمل شائعة الاستخدام تتناسب مع أوزان معينة أو مواقف سردية محددة. من خلال استخدام هذه الأدوات، يمكن للراوي أن يرتجل قصة معقدة وطويلة نسبيًا في وقت واحد.
يوضح لورد أن هذه العملية ليست عفوية أو فوضوية. بل هي عملية ماهرة تتطلب سنوات من التدريب والممارسة. يجب على الراوي أن يتقن مجموعة واسعة من الموضوعات والعبارات الجاهزة وأن يعرف كيفية تكييفها مع كل أداء. علاوة على ذلك، يجب على الراوي أن يتمتع بالقدرة على التفاعل مع الجمهور والتكيف مع ردود أفعالهم.
تأثير النظرية
كان لنظرية لورد تأثير عميق على دراسة الأدب. فقد غيرت الطريقة التي ينظر بها الباحثون إلى القصص الملحمية، ليس فقط في العالم القديم، ولكن أيضًا في الثقافات الأخرى. أظهر عمله أن الأعمال الأدبية التي تبدو ثابتة ومكتوبة قد تكون في الواقع نتاج لتقاليد شفهية معقدة.
أدت نظرية لورد إلى إعادة تقييم الإلياذة والأوديسة. استنادًا إلى عمله في يوغوسلافيا، جادل لورد بأن هذه الملاحم اليونانية القديمة كانت في الأصل أعمالًا شفهية تم تدوينها في وقت لاحق. هذا المنظور الجديد أثار نقاشًا كبيرًا بين العلماء حول طبيعة هذه النصوص وأصولها.
بالإضافة إلى ذلك، أثر عمل لورد على دراسة الأدب الحديث. فقد قدم إطارًا لفهم العلاقة بين الأدب الشفهي والكتابي. ساعدت نظريته الباحثين على فهم كيفية تأثير التقاليد الشفهية على أشكال الكتابة، وكيف تطورت القصص عبر الزمن.
أمثلة من القصص الملحمية اليوغسلافية
يقدم كتاب “مغني الحكايات” العديد من الأمثلة على القصص الملحمية اليوغسلافية التي جمعها لورد وبيري. هذه القصص تقدم نظرة ثاقبة على كيفية عمل التكوين الشفهي في الممارسة العملية.
أحد الأمثلة الشائعة هو تكرار الموضوعات. على سبيل المثال، غالبًا ما يتم وصف الأبطال بنفس العبارات الجاهزة. وبالمثل، غالبًا ما يتم وصف المعارك بنفس التفاصيل، بغض النظر عن القصة المحددة.
مثال آخر هو استخدام العبارات الجاهزة. يستخدم الرواة عددًا كبيرًا من العبارات المتكررة التي تتناسب مع أوزان معينة أو مواقف سردية محددة. على سبيل المثال، قد يستخدم الراوي عبارة “في الصباح الباكر” لبدء وصف يوم جديد.
يوضح لورد أن هذه التكرارات ليست مجرد أخطاء أو عيوب. بل هي جزء أساسي من عملية التكوين الشفهي. فهي تساعد الرواة على تذكر القصة والحفاظ عليها، كما أنها توفر للجمهور إحساسًا بالتعود والألفة.
التحديات والجدل
على الرغم من تأثيرها الكبير، فقد واجهت نظرية لورد بعض التحديات والجدل. أحد الانتقادات الرئيسية هو أنها قد تبالغ في تبسيط عملية التكوين الشفهي. يجادل بعض العلماء بأن الرواة الشفهيين قد يستخدمون أساليب أكثر تعقيدًا مما يفترضه لورد، بما في ذلك بعض الحفظ المحدود.
انتقاد آخر هو أن نظرية لورد قد لا تكون قابلة للتطبيق على جميع أنواع الأدب الشفهي. على سبيل المثال، قد لا تنطبق على القصص القصيرة أو الأغاني الشعبية، والتي قد تتبع أساليب مختلفة للتكوين.
على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال كتاب “مغني الحكايات” عملًا رائدًا في مجال الدراسات الأدبية. فقد أحدث ثورة في فهمنا للأدب الشفهي والكتابي على حد سواء.
التطبيقات المعاصرة
لا تزال نظرية التكوين الشفهي لألبرت لورد ذات صلة في العصر الحديث. يتم تطبيقها على مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك:
- دراسة الرواية الشفهية المعاصرة: يواصل الباحثون دراسة الرواة الشفهيين في جميع أنحاء العالم، باستخدام نظرية لورد لتحليل أداءاتهم وتقاليدهم.
- فهم الثقافة الشعبية: يمكن استخدام نظرية لورد لفهم كيفية انتشار الأساطير والحكايات والنكات في الثقافة الشعبية، وكيف تتغير هذه القصص وتتكيف مع مرور الوقت.
- التدريس في الفصول الدراسية: يستخدم المعلمون نظرية لورد لمساعدة الطلاب على فهم طبيعة الأدب الشفهي والكتابي، وتشجيعهم على تقدير التنوع الثقافي.
خاتمة
“مغني الحكايات” هو كتاب كلاسيكي يدرس عملية التكوين الشفهي، ويوفر رؤى قيمة حول طبيعة الأدب الشفهي. يقدم الكتاب نظرية رائدة، وهي نظرية التكوين الشفهي، والتي توضح كيف يقوم الرواة ببناء القصص الملحمية باستخدام الموضوعات والعبارات الجاهزة. على الرغم من بعض التحديات والجدل، فإن عمل لورد لا يزال له تأثير كبير على دراسة الأدب، ويستمر في تشكيل الطريقة التي نفهم بها القصص وتراثها.