أصل المصطلح وتعريفه
استخدم والتر لاكور مصطلح “الهولندية” في الأصل للإشارة إلى الظاهرة التي شهدتها هولندا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. كانت هذه الفترة تشهد نموًا ملحوظًا في الحركة السلمية، وظهور احتجاجات جماعية ضد الأسلحة النووية، والتشديد على دور الدبلوماسية والتعاون الدولي. لم يكن المصطلح مجرد وصف لظاهرة معينة، بل كان يعكس أيضًا نقدًا للاتجاهات السياسية والاجتماعية التي اعتبرها لاكور متطرفة أو غير واقعية. اعتبر لاكور أن “الهولندية” تمثل نوعًا من “المرض” الذي يصيب المجتمعات، ويؤدي إلى فقدان القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية فيما يتعلق بالأمن القومي والدفاع عن النفس.
أسباب ظهور “الهولندية”
تعددت العوامل التي ساهمت في ظهور “الهولندية” في هولندا. من بين هذه العوامل:
- الذاكرة التاريخية: لعبت الحرب العالمية الثانية دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي الهولندي. عانت هولندا من الاحتلال النازي، وشهدت خسائر بشرية كبيرة. أدت هذه التجربة إلى رفض قوي للحرب والعنف، وتفضيل السلام والتعايش السلمي.
- الحرب الباردة: أدت التوترات المتزايدة بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة إلى زيادة القلق بشأن احتمال نشوب حرب نووية. اعتبر الهولنديون أنفسهم عرضة للخطر، وشعروا بالحاجة إلى اتخاذ إجراءات لمنع اندلاع صراع نووي.
- الحركات الاجتماعية: شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات صعود الحركات الاجتماعية، مثل الحركات النسوية، وحركات حقوق الإنسان، والحركات البيئية. دعت هذه الحركات إلى تغييرات جذرية في المجتمع، بما في ذلك رفض الحرب والعنف، والتشديد على حقوق الإنسان، وحماية البيئة.
- السياسة الداخلية: تبنت الأحزاب السياسية الهولندية مواقف أكثر سلمية، مما أدى إلى تغيير في السياسات الحكومية. عبرت الأحزاب عن رفضها لتصاعد التسلح، ودعت إلى تخفيض الإنفاق العسكري، وتعزيز الدبلوماسية والتعاون الدولي.
تأثير “الهولندية” على المجتمع والسياسة
أثرت “الهولندية” بشكل كبير على المجتمع والسياسة في هولندا. من بين هذه التأثيرات:
- تراجع الإنفاق العسكري: ضغطت الحركات السلمية والأحزاب السياسية على الحكومة لخفض الإنفاق العسكري. شهدت هولندا تخفيضات كبيرة في ميزانية الدفاع، وتحولت إلى سياسة دفاعية أكثر تركيزًا على السلام والدبلوماسية.
- المشاركة في حركات السلام: شارك الهولنديون بنشاط في الحركات السلمية، مثل الاحتجاجات ضد الأسلحة النووية. أصبحت هولندا مركزًا للحركات السلمية في أوروبا، واستضافت العديد من الفعاليات والمؤتمرات المناهضة للحرب.
- دعم التعاون الدولي: أيدت هولندا بقوة التعاون الدولي، وعملت على تعزيز دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. شاركت هولندا في عمليات حفظ السلام، وقدمت الدعم المالي والإنساني للدول النامية.
- التأثير على الثقافة والإعلام: أثرت “الهولندية” على الثقافة والإعلام في هولندا. ظهرت أفلام وأعمال فنية تعبر عن رفض الحرب والعنف، وتدعو إلى السلام والتعايش السلمي. ركز الإعلام على قضايا السلام وحقوق الإنسان، وقدم تغطية مكثفة للاحتجاجات والفعاليات المناهضة للحرب.
انتشار “الهولندية” إلى دول أخرى
على الرغم من أن مصطلح “الهولندية” قد نشأ في هولندا، إلا أنه انتشر ليشمل دولًا أخرى في أوروبا الغربية وأماكن أخرى. شهدت دول مثل ألمانيا الغربية، والدنمارك، والنرويج، والمملكة المتحدة صعودًا مماثلًا للحركات السلمية، وتزايدًا في المشاعر المعادية للحرب. ساهمت عدة عوامل في انتشار هذه الظاهرة:
- الوعي المشترك بالخطر النووي: أدى الخوف من الحرب النووية إلى توحيد الناس في جميع أنحاء العالم. اعتقد الكثيرون أن الحرب النووية ستكون كارثة عالمية، وأنه يجب بذل كل جهد ممكن لمنعها.
- تأثير الحركات الاجتماعية: ألهمت الحركات الاجتماعية في هولندا وغيرها من الدول الحركات المماثلة في أماكن أخرى. شاركت الحركات في تبادل الأفكار والمعلومات، ونظمت حملات مشتركة ضد الحرب والتسلح.
- تطور وسائل الإعلام: ساهمت وسائل الإعلام في نشر الأفكار والمعلومات حول قضايا السلام وحقوق الإنسان. ساعدت وسائل الإعلام في ربط الحركات السلمية في مختلف أنحاء العالم، وتمكينها من تنسيق جهودها.
انتقادات لـ”الهولندية”
واجهت “الهولندية” انتقادات من قبل بعض الأوساط. اعتبر المنتقدون أن “الهولندية” تمثل نوعًا من السذاجة السياسية، وأنها تعرض الأمن القومي للخطر. جادلوا بأن التركيز المفرط على السلام والدبلوماسية قد يؤدي إلى إضعاف القدرة على الدفاع عن النفس، وأن الدول التي تتبنى مثل هذه المواقف قد تصبح عرضة للتهديدات الخارجية. اتهم المنتقدون “الهولندية” بالتقليل من أهمية الدفاع عن النفس، والاعتماد على التمنيات بدلاً من الواقعية السياسية.
“الهولندية” اليوم
على الرغم من تراجع حدة بعض مظاهر “الهولندية” مع مرور الوقت، إلا أن تأثيرها لا يزال ملموسًا في السياسة والمجتمع في هولندا. تواصل هولندا دعم التعاون الدولي، والمشاركة في عمليات حفظ السلام، وتعزيز الدبلوماسية. لا يزال هناك رفض قوي للحرب والعنف في المجتمع الهولندي، وتفضيل للحوار والتعايش السلمي. تعتبر هولندا اليوم دولة ملتزمة بالسلام وحقوق الإنسان، وتعمل على تعزيز هذه القيم في جميع أنحاء العالم.
تحديات تواجه “الهولندية”
تواجه “الهولندية” بعض التحديات في العصر الحالي. من بين هذه التحديات:
- الصراعات العالمية: أدت الصراعات المستمرة في مختلف أنحاء العالم إلى زيادة الحاجة إلى الحوار والدبلوماسية، ولكنها أيضًا سلطت الضوء على أهمية القدرة على الدفاع عن النفس. يجب على هولندا أن تجد توازنًا بين الالتزام بالسلام وحقوق الإنسان، والحفاظ على القدرة على حماية مصالحها الوطنية.
- التهديدات الجديدة: تواجه الدول تهديدات جديدة، مثل الإرهاب السيبراني، والقرصنة، والهجمات الإلكترونية. تتطلب هذه التهديدات استراتيجيات دفاعية جديدة، وقدرة على التكيف مع التحديات الأمنية المتغيرة.
- صعود القومية: يشهد العالم صعودًا للقومية، مما قد يؤدي إلى تراجع التعاون الدولي، وزيادة التوترات بين الدول. يجب على هولندا أن تواصل العمل على تعزيز التعاون الدولي، والدفاع عن القيم المشتركة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
خاتمة
كانت “الهولندية” ظاهرة تاريخية مهمة، عكست تحولًا في القيم المجتمعية في هولندا في أواخر القرن العشرين. ساهمت هذه الظاهرة في تعزيز السلام والدبلوماسية، ودعم التعاون الدولي، وتعزيز حقوق الإنسان. على الرغم من التحديات التي تواجهها، تواصل “الهولندية” التأثير على السياسة والمجتمع في هولندا، وتلهم دولًا أخرى للعمل من أجل عالم أكثر سلمًا وعدالة. إن فهم “الهولندية” يساعدنا على فهم التغيرات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وأهمية القيم التي تدعم السلام والتعايش السلمي.
المراجع
- Laqueur, Walter. “Hollanditis.” *Commentary*, vol. 72, no. 5, 1981, pp. 25-35.
- Goudoever, Jan van. “Hollanditis: The Dutch Peace Movement and the Nuclear Weapons Debate.” *Journal of Peace Research*, vol. 20, no. 2, 1983, pp. 129-142.
- Evers, Bernhard. “Hollanditis: The Peace Movement and the Dutch Foreign Policy-Making Process.” *International Affairs*, vol. 59, no. 4, 1983, pp. 619-634.
- Brands, H.W. “Hollanditis: The Peace Movement and Dutch Politics.” Woodrow Wilson International Center for Scholars, 1983.
“`